عطية محمد عطية عقيلان
يتداول مقطع جميل هذه الأيام على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، لقصة الرجل الكبير البسيط الذي فاز بجائزة قدرها ثلاثة آلاف جنيه، وهو يسأل المذيع: هل هي حلال؟! رغم حاجته وفقره، إلا أن القناعة بواقعه ورضاه عنه، جعل تساؤله عن «الحلال» هو الهاجس الرئيسي في قبوله المبلغ أو رفضه، بعيدًا عن حاجته وظروفه، مكررًا السؤال للتأكد من أنه «حلال» ليستطيع أخذه، وفي المقابل نعايش ونرى ونسمع الكثير من القضايا والاتهامات، وما يصدر من الجهات الرقابية ونزاهة والمحاكم، لرجال أعمال وموظفين بمراتب عليا ومكانة وعلم ووضع مالي جيد وأحياناً أصحاب أملاك وعقارات وتجارة وثراء، متهمين بالتلاعب والرشوة والغش والتدليس والاختلاس وخيانة الأمانة وأكل أموال الدولة والناس بالباطل، والمحاكم مليئة بالقضايا التي يؤخذ منها العِبر بين عامة الناس وبعض الأغنياء سواء في قضايا الحجر على الأب أو توزيع الميراث، فرغم امتلاك أحياناً مئات الملايين، إلا أن الطمع غلب على القناعة وحولها «كأمنا الغولة» يسمع بها ولا ترى.
وعلى الرغم من أن القناعة من أجمل الكلمات التي تريح الإنسان وتجعله سعيداً ومستمتعاً بواقعه، مع عدم تعارض هذه القناعة والرضا بالحاجة إلى الجهد والسعي والمثابرة والاجتهاد وتطوير كافة مناحي حياتنا وتغييرها دوماً إلى الأفضل، والبعد عن التبذير والكسل والتواكل والخنوع للواقع والظروف، والبحث عن مبررات لتعليق فشلنا أو تشاؤمنا عليها، وعكس القناعة والرضا، سنجد «الطمع» والذي يعتبر من أسوأ الصفات التي يمكن أن تلازمنا وتحرمنا من الاستمتاع بما نعيش ونملك، ومنها تبدأ رحلة النقمة على وضعنا ومن حولنا، مع تنامي نظرة الحسد، والشعور بالغيرة، والحسرة على واقعنا، ونبدأ نتطلع لما في أيدي الناس من مال وأولاد وصحة، ومن واقع تجربة حياتية، ومن قصص من حولنا وعايشناها، تخف القناعة وتتلون لدى البعض بعد تحسن الوضع المادي والارتقاء الوظيفي وتضخم الرصيد البنكي، وتبدأ المشاعر تتبدل من القناعة برضا محمود إلى الطمع المذموم، وتتحول العلاقات والتصرفات، وتصبح مرتبطة بالفائدة والمصالح التي تجنى منها، والبحث عمن يساعده في زيادة ماله أو الدخول في فرصة استثمارية تعود بالنفع المادي عليه، وتخف الاجتماعات والعلاقات الطبيعية بين زملائه وأصدقائه وعائلته، وتصبح حسب المزاج و»الفضاوة»، وأحياناً ليقنع نفسه بأنه لم يتغير وما زال يتواصل مع البعض بدون مصالح، مع زيادة مساحة التنظير بالأقوال، وقلة مساحة التطبيق، وهذا التباين في نظرتنا وتحولاتنا، نمارسه نحن بوعي أو بدون وعي، وهي تتجسد بشكل واضح وجلي في مقولة د. غازي القصيبي «ما أسهل النزاهة على إنسان لم يعرض عليه أحد عشرات الملايين»، لذا شهدت قصة الفلاح البسيط وسؤاله عن الحلال في المال الذي ربحه، تفاعلاً وتعليقاً إيجابياً، مع تداوله بين مختلف المنصات الاجتماعية، لأنها لامست شعورنا الإنساني والأخلاقي، وبأن الفضيلة موجودة والقناعة باقية وما زالت كنزاً لا يفنى، وكانت بها عبرة وفائدة، بأن الإيمان بالقيم والرضا بها يضفي سعادة وراحة واطمئناناً ظهرت عليه ووجدناه فيه بلا تصنع، يغبط عليها، وهي درس لنا بأن نشيع ما يدعو إلى الفضيلة والتمسك بالقيم والتفاؤل بوجودها، ونحاول أن نربط قناعتنا بالرضا والقبول قدر المستطاع بمعايير وقيم ثابتة، بعيداً عن التلون حسب وضعنا ومزاجنا، مع أهمية تحسين واقعنا والبحث عن الأفضل والأسعد والسعي المستمر والتطوير دون كلل أو تعب، مع تخفيف حدة نقد الآخرين ومحابتهم بمثالية، غالباً لا نطبقها في حياتنا لو كنا بنفس ظروفهم.
ونختم كلامنا بمقولة للحكيم والروائي طاغور: « القناعة هي الاكتفاء بالموجود وترك الشوق إلى المفقود».