محمد سليمان العنقري
يدخل العالم العام القادم محملاً بأثقال عديدة أولها بقاء فيروس كورونا، هذا الحمل الثقيل بمتحوراته التي لا تتوقف؛ نتيجة الانخفاض الحاد بنسبة الحاصلين على اللقاحات عالمياً تحديداً في قارة أفريقيا التي ظهر منها المتحور الأكثر عدوى أوميكرون، كما يضاف للأحمال ملف التضخم الذي أعاد بعض الاقتصادات المتقدمة لمستوياته ما قبل أربعة عقود مثل أميركا وبعض الدول الأوروبية، هذا بالإضافة للنزاعات التجارية والسياسية في العالم من شرقه لغربه، فرغم ما تحقق من نجاح بالعودة للنمو الاقتصادي العام الحالي 2021، وأيضاً إنتاج عدد كبير من أنواع اللقاحات وأيضاً يضاف لها ثلاثة علاجات قيد الترخيص، لكن لهذه النتائج الإيجابية ثمنًا كبيرًا دفع من قبل الدول كافة لانتشال اقتصادياتها من الركود، وأيضاً خلفت محفزات النمو نتائج سلبية أيضاً من أهمها ارتفاع التضخم، وكذلك الزيادة الضخمة بالدين العالمي الذي وصل إلى 296 تريليون دولار مرتفعاً خلال فترة الجائحة بحوالي 36 تريليون دولار.
والسؤال الذي يبحث عنه الكثيرون: ما التوجهات والملامح العامة التي ستطغى على مشهد الاقتصاد العالمي في 2022 م الذي يدخله العالم محملاً بنجاحات وبأثمان باهظة لها وبانعكاسات لابد من معالجتها، لأنها قد تقوض كل ما تحقق من نمو اقتصادي عالمي اقترب من 5.9 بالمائة لهذا العام، مع توقع أن يحقق العالم نمواً اقتصادياً عند 4.8 بالمائة للعام القادم، لكن أول التحديات التي ستواجه تحقيق هذه النسبة هو ملف التضخم، فالفيدرالي الأمريكي الذي كان يصفه بالتضخم العابر ألغى هذه الكلمة واعتبره تضخمًا مستمرًا يستوجب العلاج بأدوات لعبت دوراً في ارتفاعه، وبدأ بتغيير أول هذه السياسات من خلال خطة سحب التيسير الكمي الذي بدأ بتقليصه شهريًا بخمسة عشر مليار دولار شهرياً، ثم عدل قراراه ليصبح التقليص 30 مليار دولار شهرياً اعتباراً من يناير 2022، وألمح إلى إمكانية رفع الفائدة ثلاث مرات بدل مرتين بحسب التوقعات السابقة في العام القادم. وقد تكون البداية من منتصف العام القادم 2022.
فيما فاجأ البنك المركزي البريطاني الأسواق برفع سعر الفائدة قبل أيام مخالفاً كل التوقعات، وذلك لكبح التضخم غير المسبوق منذ أكثر من ثلاثين عاماً، مما اعتبره بعض المحللين قراراً يهز الثقة بالبنك الذي أعطى مؤشرات عديدة سابقة بعدم قرب رفع أسعار الفائدة، كما يتوقع أن يتجه البنك المركزي الأوروبي للخطوات نفسها بسحب المبالغ التي ضخها لإنعاش الاقتصاد، وكذلك رفع أسعار الفائدة، فمثل هذه التوجهات سيكون لها أثر بتحريك خارطة توجه التدفقات الاستثمارية، بحيث سيكون لها تأثير على أسواق المال والسلع والعقار بتغيير مهم في توزيع الاستثمارات فيها، فيمكن القول مع التوجه لبداية تشديد السياسات النقدية عالمياً بأن توجه البنوك المركزية سيكون للتوازن بين كبح التضخم والمحافظة على النمو الاقتصادي، وهذا يفرض على الأسواق العودة للاعتماد على التمويل كما هو بالظروف الطبيعية، بعد أن ضخت الدول حزم تحفيز قاربت 30 تريليون دولار أمريكي منذ العام الماضي.
كما أن العام القادم يحمل تحدياً مهماً يتمثل في القضاء على جائحة كورونا مما يعني أن زخماً كبيراً سيتركز على كيفية اتخاذ الدول قرارات تخص إلزامية اللقاحات، وهو ما يمثل معضلة كبيرة للدول الأوروبية وأميركا وحتى في إفريقيا، وهو ما تخشى الحكومات أن يتحول لمواجهات مع سكان تلك الدول والتي قد ينتج عنها تغيير كبير في النظرة السائدة لبعض الحريات، لأن اللقاح ليس تحصيناً للفرد فقط بل لمحيطه ومجتمعه، ولذلك يرى الخبراء المختصون بعلم الأوبئة أنه لابد من إلزامية اللقاحات حتى تعود الحياة لطبيعتها، فكيف ستعالج حكومات وبرلمانات هذه الدول ملفًا شائكاً يراه البعض حرية شخصية، ولذلك خرجت بعض التوقعات إلى أن فيروس كورونا سيبقى كجائحة لعامين قادمين إذا ما استمرت نسب الملقحين بهذا المستوى المتدني عالمياً، لأن من شأن ذلك حسب رأيهم يعطي الفرصة لمزيد من التحورات مستقبلاً التي تهدد فاعلية اللقاحات الحالية.
أما ملف الدين العالمي الضخم فهذا ما يؤرق الجميع ويتطلب حذراً شديداً بمنع انزلاقه لأزمة مالية لن يكون العالم قادراً على استيعابها، فحجمه يعادل نحو أربعة أضعاف الناتج الإجمالي العالمي، ولذلك يتطلب مراقبة شديدة من البنوك المركزية وعدم إشعال صراعات سياسية أو تجارية كالتي تظهر ملامحها حالياً بين روسيا وأوكرانيا ومن خلفها حلف الناتو بقيادة أميركا، بالإضافة للصين وتايوان التي تدعمها أميركا والتي لديها ملف جرب تجارية مع الصين نفسها، كما يظهر تنافس أمريكي - فرنسي في صفقات السلاح ومنافسة كبيرة بينهما، نتج عنها خلاف أشعلته صفقة إلغاء الغواصات الفرنسية لصال استراليا التي فضلت منتجاً أمريكياً عليها.
بين الملفات الاقتصادية الشائكة والنزاعات السياسية ستتحرك الدول في محاولة للمنافسة فيما بينها على من سيكون الأقوى والمنتصر على حساب دول عديدة ستكون خاسرة خصوصا الدول الفقيرة، وسيكون العام القادم بداية ولادة قوى اقتصادية مؤثرة لسنوات طويلة مع تحول الاستثمارات إليها لمعالجة تركز سلاسل التوريد بالصين لنقل جزء منها لدول مثل اندونيسيا والهند وغيرها في آسيا ذات العمالة الكثيفة، بالإضافة لمآلات ملفات سياسية سيكون لها انعكاس مهم جداً على الاقتصاد العالمي كملف روسيا وأوكرانيا وملف الاتفاق النووي الإيراني وملف الصين مع تايوان وإعادة الاستقرار لأفغانستان ولدول ضربتها الفوضى بالسنوات العشر الأخيرة، مما يعني أن العالم سيواجه تحديات تمثل منعطفاً مهماً في مستقبله لعقود قادمة.