هي نقطة ضوء ولحظة فارقة في تاريخ المسيرة الكروية اليمنية، في تاريخ اليمن، وفي تاريخي أنا.. نعم في تاريخي ومسيرتي الشخصية.
كان لي شرف التواجد في مدينة الدمام شرق المملكة منذ لحظة وصول المتتخب، من اليمن الحبيب، كان الطقس أقرب إلى البرودة، كل شيء مبهج وأكثر منه ابتسامة ذلك الثعلب الماكر «قيس صالح» المدرب الذي أقنع الجميع أن أداء المنتخب متواضع بحكم ظروف اليمن العصيبة، وفي الخفاء كان يجهز كتيبة قتالية، بل جيش مغول لا يعرف التوقف إلا أمام الكأس.
كان الثعلب قيس يقف كل يوم خلف الميكرفون بصوت شاحب، يقول في المؤتمر الصحفي جملاً لا يفهمها غير جنوده السريين، يتحدث بلغة دارجة، نصف غامضة، تمضي كلماته لإقناع الناس بأن منتخب اليمن متواضع الأداء والقدرات لذلك لا تقلقوا منه.
في الحقيقة لم يكن حرصي الشخصي فقط أن أتواجد مع المنتخب منذ لحظة وصوله إلى الدمام؛ بل حرص وتوجيه سعادة السفير الدكتور شائع محسن الزنداني سفير بلادنا لدى المملكة العربية السعودية الرجل الشغوف بانتصارات هذا الجيل وحضور وتشجيع كل فعالية يقيمها.
في فترات سابقة كان يحرص على حضور معارض الفنانين التشكيليين اليمنيين في المملكة، وحضور عديد مباريات للمنتخبات الوطنية: المتتخب الأول والشباب والناشئين، ويحرص على حضور وتكريم منتخب وأندية الجالية اليمنية في كل مدن المملكة، حتى الرحالة وأوائل المدارس والجامعات لا يغيبون عن قائمة اهتماماته، رجل يرى في هذا الجيل شبابه، يحفظ أسماءهم ومناطقهم وتاريخ مشاركاتهم ويسأل عن طموحاتهم ونظرتهم للمستقبل، ثم يردد: اليمن بخير طالما فيها هذا الجيل المتعافي من صراعات الماضي وخلافات الحاضر.
طوال العشرة الأيام الماضية كان الدكتور شائع على تواصل دائم معي، يسأل عن المنتخب وأحوالهم وظروفهم واستعداداتهم، وسريعاً ما أكون في مقر إقامتهم أو ملاعب تمارينهم اليومية، يتصل ويتحدث مع كل لاعب وإداري وفني، يترك روتين العمل الدبلوماسي الذي اعتاده منذ عشرات السنين ويتحدث معهم بعفوية أب، يحثهم، يشجعهم، يمازحهم، يقول لهم معكم ضمنا البطولة وما هو أكبر منها.
ثم يذهب إلى اتصالات أخرى مع معالي الوزير نايف البكري ورئيس الاتحاد الشيخ أحمد صالح العيسي يسأل عن المنتخب وإمكانياته وفرصه وتحدياته.
في فترات سابقة زار السفير شائع الزنداني كل منطقة تتواجد فيها الجالية في المملكة وكل جامعة يتواجد فيها طلاب يمنيون.
أما أنا فقد مرت أيام تواجدي مع المنتخب كأيام عرس، انتقل معهم وبهم من فرح إلى آخر، ومن نصر إلى انتصار أكبر حتى تُوِجَ المنتخب بكأس بطولة غرب آسيا للناشئين في نسختها الثامنة لأول مرة في تاريخه.
جلسات المساء مع مدير المنتخب الخلوق عبدالرحيم الخشعي والمدرب الرائع قيس محمد صالح كانت تمتلئ بل تفيض بالثقة، كانا واثقين من الفوز والنصر إلى حد أتوقف عن مناقشتهم في شيء.. وفي كل مرة أختم حديثي معهم ومع اللاعبين بضرورة اعتماد التسديد من خارج خط الـ18، فالحارس في الطرف الآخر صغير السن والجسد والخبرة في حماية مرماه، خاصة بعد مشاهدة أهداف منتخبنا أمام منتخب البحرين وهدف المنتخب السوري في مرمانا وهدف المنتخب السعودي في مرمى المنتخب الإماراتي.
وما لا تعرفونه عن منتخب الناشئين، وبعيداً عن الرياضة، هو أخلاقهم العالية جدًا جدًا، وانضباطهم والالتزام الحرفي بتوجيهات المدرب ومدير المنتخب، تتحدث معهم وتشعر أنك أمام قمم جبال وليس أولاد تحت سن 17 سنة، وأورد هنا معلومة ليست رياضية لكنها من وجهة نظري اعتبارية، وهي أن أربعة من لاعبي المنتخب يحفظون القرآن الكريم كاملاً، بينهم هيثم السلامي، وعصام ردمان صاحب هدف الفوز أمام منتخب سوريا.
أما سعيد العولقي فهو لوحده حكاية، ابتسامته البيضاء ستظل إيقونة في ذاكرة اليمن، حين ذهبت لمصافحته قررت تقبيل رأسه، فشعرت أنه أطول جبال اليمن، شاب واثق خلوق متميز، صاحب طموح كنت أسمعه وهو يتحدث إلى سعادة السفير الزنداني ويقول له: احنا يهمنا نوحد اليمن بالفرحة الكبيرة!.
كابتن المنتخب حمزة الصرابي والمهاجم محمد البرواني والحارس وضاح أنور والحارس الآخر مروان معياد واللاعبين عبدالرحمن الخضر وأسامة الأسدي وعلي الجرهومي وهشام الحصيني وعلي الحنبصي وعادل عباس وسعد الشبعان ورفعت سمير وأحمد مصطفى وأحمد عقلان وكل لاعب في المنتخب هو حجر في مدماك جيل قادم من اللاعبين والمحترفين في اليمن الولاّدة بالأبطال، هؤلاء هم أحفاد علي محسن مريسي أشهر لاعب في تاريخ اليمن.
هذا الجيل المتعافي من الصراعات والحسابات وصفحات الماضي هو من ينتظره مستقبل اليمن.
وفي اليمن الولاّدة الآلاف غيرهم ممن لم تتح ظروف الحرب البحث عنهم واكتشاف مواهبهم في مجالات شتى.. وأكثر ما يدهشني في هذا الجيل هم المخترعون، فتشوا عنهم وستجدون ما يعجز عنه الكلام. شكراً بحجم اليمن لراعي هذا الانتصار وحارس الأمنيات الكبيرة معالي الوزير نايف البكري وزير الشباب والرياضة، شكراً للشيخ أحمد العيسي رئيس الاتحاد اليمني لكرة القدم، الرجل الذي ترك على مكتبه صفحة بيضاء يدون فيها الرياضيون احتياجاتهم.. ويستجيب.
شكراً سعادة السفير شائع محسن، الرجل الذي يفتح قلبه قبل مكتبه، ويخرج قلمه قبل أن تخرج كلمات طلبك، لا يتردد لحظة في دعم جميع الشباب والمبدعين اليمنيين المقيميين في المملكة. شكراً لهذا الجمهور العاصف، لهذا الجمهور الذي يسند ظهرك، ويثبت قدمك في أحلك اللحظات. شكرًا للمملكة العربية السعودية قيادة وشعباً.. البلد الذي حمل اليمن واليمنيين وأعطاهم وساندهم في السراء والضراء.. شكراً لكرمكم وحفاوتكم وجميل صنعكم مع المنتخب والجمهور.. منحتم لاعبينا الفنادق الفخمة والباصات الفارهة والتغذية الممتازة والملاعب المجهزة للتمارين اليومية، شكراً لصبركم وتفهمكم للجمهور اليمني الذي ملأ مدرجات الملعب.
شكراً لكل من دعم وساند المنتخب قبل الفوز وبعده.
** **
عارف أبوحاتم - كاتب يمني