في فجر يوم الخميس السابع والعشرين من ربيع الثاني لعام 1443هـ، انتقل إلى رحمة الله زوجي ومعلمي ورفيق دربي أبو المنذر أ.د. نعمان بن عبدالرزاق السامرائي في مدينة الرياض حرسها الله.
وبرحيله جاشت العبرات، وفاضت الدموع، ورثاه جمع من الأصحاب والأحباب والشعراء في داخل المملكة وخارجها، وليس ذلك بكثير على رجل عاش حياة طويلة عريضة مفعمة بالجد والإنجاز والنفع والتأثير والبحث العلمي والعمل الدعوي تاركاً خلفه عشرات الكتب والمؤلفات والمئات من المقالات، وكتل رائعة ووفية من الطلاب والطالبات في البكالوريوس والدراسات العليا في جامعة الملك سعود، وقبلها في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ويأتي على رأس تلك الكوكبة صاحب السمو الأمير الدكتور الخلوق الفاضل سعود بن سلمان بن محمد آل سعود الذي ظل وثيق الصلة بأستاذه، يحوطه باهتمامه وعنايته، جزاه الله خير الجزاء، وبارك له في شأنه كله، والطيب من معدنه لا يستغرب.
ولد الشيخ نعمان في مدينة سامراء بالعراق عام 1347هـ (1928م) ونشأ نشأة صالحة في ظل والدين كريمين، ودرس فيها دراسته التقليدية (الكتاتيب) ثم النظامية حتى أنهى الثانوية، وحينها بدأت تتشكل شخصيته الجادة وميوله الواضحة للقراءة والتدين وملازمة المسجد، ثم التحق الشيخ بكلية الشريعة ببغداد في أول دفعة، وتخرج فيها متفوقاً في بداية الخمسينات الميلادية، وفيها أيضاً حاز درجة الماجستير في الفقه الإسلامي، وقد طبعت الجامعة رسالته لنفاستها، وقضى بعد ذلك بضع سنوات في التدريس والعمل الدعوي والكتابة في الصحف والمجلات، وشارك في تأسيس كلية الدراسات الإسلامية ببغداد، قبل أن ينتقل إلى مصر متفرغاً لدراسة الدكتوراه في الأزهر، ويعود ظافراً بها في بداية السبعينيات الميلادية.
وفي تلك المرحلة اشتهر الشيخ بمناصرته للقضايا الإسلامية والعربية، خصوصاً قضية فلسطين، وكان داعماً للكثير من الجهود ومنسقاً بينها، كما كتب عدة دراسات حول اليهودية والتوراة ومواضيع أخرى ذات صلة، فجمع إلى العمل الميداني جهوداً علمية رصينة تبني الوعي وتصنع المعرفة المتكاملة بالقضية.
في عهد الملك العظيم فيصل -رحمه الله- قرر الشيخ الاستقرار في المملكة العربية السعودية، وبقي فيها إلى أن لقي وجه ربه، ومنذ قدومه التحق بالعمل الأكاديمي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، ثم في جامعة الملك سعود.
عاش الشيخ خمسة وخمسين عاماً غنية ثرية هانئة مستقرة في ربوع الرياض، أنتج فيها أغلب بحوثه ومؤلفاته المتنوعة التي زادت على الثلاثين، وأظهرت شخصية معرفية موسوعية شاملة لم تسجن نفسها داخل تخصصها، بل شاركت وأثرت في مختلف جوانب المعرفة، ومن أبرز تلك المؤلفات: تفسير التاريخ، التعددية في الإسلام، العقوبات في الشريعة أهدافها ومسالكها، العلاقة بين العلم والدين، قراءة في النظام العالمي الجديد، تصرفات المريض مرض الموت في الشريعة والقانون، في أعماق التجربة اليابانية، التكفير قديماً وحديثاً، الحياة تدافع أم تصارع، مذكراته الشخصية، وغيرها، كما أشرف على عشرات الرسائل الجامعية، وساهم في عدد من البرامج والمشروعات العلمية والموسوعات مثل: جائزة الأمير نايف -رحمه الله- للسنة النبوية، والموسوعة الفقهية الكويتية، ولجنة تأصيل العلوم، وموسوعة الكتاب العالمي، وإذاعتي الرياض والقرآن الكريم، وغيرها.
كان -رحمه الله- متصفاً بالفاعلية، فارساً في ميادين العلم والدعوة، معتنياً بالثقافة الحديثة، متنوعاً في مصادر ثقافته، فهو فقيه مؤرخ أديب وداعية.
هذه لمحات سريعة عن حياته خارج بيته، وأما حياته بين أسرته وأولاده فهو حديث طويل ذو شجون لا يتسع المقام له في هذه العجالة.
كان -رحمه الله- ميالاً للجد وصرف الوقت فيما ينفع ويفيد، وكثيراً ما كان يردد: «إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها». وهذه القاعدة العظيمة النافعة كان يرددها عليَّ كلما جنحتْ بي الحياة نحو الهاوية، كي ينقذني من مهاوي الأنانية واللغو والعتب.
وهكذا تعودت على ما يحب ويكره، وصرت أتجنب نقاش أي شيء لا قيمة له ولا أثر.
اتصف أبو المنذر منذ شبابه بالتواضع الجم ونكران الذات، وقد عشت معه ستاً وأربعين سنة، ولم أسمعْه يوماً يضيف اللقب إلى اسمه، فيقول نعمان فقط، وحين يلزم الأمر يضيف كلمة السامرائي، ولا تكبّر يوماً على صديق أو تلميذ، ولا يسمح لأحد أن يقبل يده.
عالي الهمة قوي النفس عظيم العزيمة يقوم إلى حاجته بنفسه ولا يرمي حمله على أحد، يردد دائماً: صاحب الحاجة أولى بها، فيصحو صباحاً ويعمل قهوته ويغسل فنجانه ولا يثقل على أحدٍ في البيت بطلباته. ولا رأيت رجلاً بلغ التسعين من عمره بهمته وجده مع الجنوح إلى البساطة في كل شيء، لا يشتكي، ولا يتشهى، إن أطعمته أكل اليسير، وإن لم يجد ما يأكله غمس كسرة خبز باللبن وأكلها وحمد الله وأثنى عليه.
متسامح بلا حدود، كانت قاعدته قوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}، فإن ابتلي بأحدهم يعرض عنه دون أن يشعره، وإن أخطأ بحقه أحد ما كان يعاتبه أو يجادله فلا يرد الخطأ بمثله ولا يعاقب عليه ولا يعتب على أحد، إنْ كلمه أحد كلاماً فيه عبارة أو إشارة جارحة لا يرد ولا يجيب، وإذا ما سألته لمَ سكت عنه؟ قال الكلام يأتي بالكلام، فإذا لم أرد عليه اضطر إلى أن يلزم الصمت. والصفة الغالبة على شخصيته قلة الكلام، ويرى في كثرة الكلام واللغو إثماً.
معظم لشعائر الله وللصلاة، حريص على أدائها في المسجد، لا يتخلف عن الجماعة إلا لعذر قاهر، حتى أصبح جزءًا من المسجد، لا يتصور أحد خلوه منه.
كريم مضياف، يفرح بالقادم إليه، ويفتح مجلسه لمريد الفائدة، وطلبة الجامعة، وأصدقاء الأمس واليوم، فضلاً عن أسرته وقراباته، لا تخرج من مجلسه إلا ملتقطاً لفائدة أو حاملاً لواحد أو أكثر من مؤلفاته.
يحب الفقراء والمساكين ويجالسهم ويؤانسهم، حتى سُمي بين معارفه وأهله بأبي المساكين. كان بعيداً عن الكبر والرياء والمظاهر الزائفة. ما سمعته قط منَّ على أحد بمساعدة أو غيرها، متأسياً بقوله تعالى: {ولا تمنن تستكثر}. كان كثير الحياء، لم أره حملق في محدثه، ويستحي أن ينظر إلى عينيه.
كان أبو المنذر لي مدرسة لا تغلق أبوابها وتعلمت في هذه المدرسة الكثير.
شمائلك كثيرة ومحامدك عديدة، والكمال لله وحده.
رحمك الله وجمعنا بك في فردوسه الأعلى.
** **
- فائزة بنت عبدالله السقباني