د.محمد بن عبد العزيز الفيصل
الفرس لم ينظموا الشعر موزوناً إلا بعد تأثرهم بالعرب
تُمثل اللغة العربية الرابط اللغُّوي المشترك بين أكثر من ثلاثة مليارات إنسان، يعيشون في مختلف أنحاء العالم؛ لِتُكوّنَ هذه اللغة المتجددة فصولاً من أبواب مشرعة تدعو كل مُهتمٍ إلى الدخول في تفاصيلها المثيرة، والاستمتاع بأصالتها ومعاصرتها لكل ما هو حديث في هذا العالم المتسارع الذي تقوده العولمة بخطوات تُسابق فيها الزمن.
لم تكن اللغة العربية في أي عصرٍ من العصور أو مرحلة من المراحل مُنكفئة على نفسها، بل كانت ولا تزال الحاضن الأقوى للغات عالمية أخرى، فهناك لغات اندثرت وبَعثها ورثتُها من جديد لتعتمد في كل قواعدها النحوية والتصريفية على القواعد العربية كالعبرية، وهناك لغات أخرى تخلّت عن أحرفها لتتخذ الأحرف العربية وسيلة للكتابة والتعبير كالفارسية، وقبلها التركية قبل أن تَستبدل الأحرف العربية باللاتينية، وغيرهم من الأمثلة كثير، فالعربية تملك قدرة على مواءمة الجديد، ومواكبة الحديث، لتكون المؤثر الأبرز بمكونات اللغات التي تتعايش معها، والمتأثر الأقوى في ميدان حقولها الدلالية، وخير وسيط لربط ثقافة الأمم ببعضها.
لقد برزت اللغة العربية في ميادين اللغات الأخرى، كمكوّنٍ رئيس للتلاقح الثقافي، لتبني جسورًا للتواصل الفكري مع مختلف لغات العالم، فتخلق قوة ناعمة ولجت عبرها إلى العديد من الثقافات العالمية، ولا أدل على ذلك من احتوائها لُغويًا للإنجيل والتوراة، الأصلين الدينيين لليهود والمسيحيين، لتشكل العربية أنموذجًا فريدًا، ومثالاً حيًّا، في قدرتها على التعايش مع مختلف الثقافات العالمية، ولم تقف العربية عند هذا الحد بل تجاوزته لتصل إلى بعض المكونات الثقافية التقليدية في بعض اللغات الإقليمية في القارة الآسيوية!
لقد أسست العربية عبر تعاطيها اللُّغوي مع مختلف اللغات التي تمثل ثقافاتٍ متنوعة، واتجاهاتٍ متعددة في منظومة التواصل الثقافي الكُلي جِسرًا للاتصال المعرفي، عبر ما تملكه من إمكانات نوعية جعلتها قادرة على التواصل الإنساني مع الثقافات الأخرى في مختلف أنحاء العالم.
لقد رافقت اللغة العربية عبر عصورها المرحلية فصولاً متعددة من الامتزاج الثقافي والفكري، لتكون عنوانًا للتسامح الاجتماعي، ولبنة في صروح الحضارات المختلفة والمتعددة، لتؤثر بما تملكه من رصيد ثقافي واقتصادي وإنمائي في عدد من الحضارات الإنسانية وذلك عبر بواباتٍ مختلفة ومتعددة، تتسنّمها الترجمة، والحركة الاقتصادية، والإنمائية، والامتزاج الاجتماعي، والتواصل الثقافي، فكانت هذه القوى الناعمة طريقًا إلى الإسهام في بناء هذه الحضارات الإنسانية بمختلف أنواعها وفروعها، فكانت العربية وما تزال لغة التسامح والبناء الحضاري والفكري، والوسيلة المثلى للتواصل الثقافي بين الشعوب، ولا أدل على ذلك من انبراء الكثير من المستشرقين في مختلف أنحاء العالم لدراسة اللغة العربية والبحث في مكنونها، والتأكيد على ربطها بحضارات بلدانهم المتنوعة، ليكون هذا الإسهام الحضاري والفكري جسرًا يعبر من خلاله محبو هذه اللغة إلى حضاراتهم وثقافاتهم المتعددة، تقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكة: «إن كل الشعوب التي حكمها العرب اتحدت بفضل اللغة العربية».
إن الأثر الذي تركته اللغة العربية في عوالم الثقافات الأخرى أثرٌ لا يرتبط بقوة الهيمنة العسكرية والسياسية المترتبة على الفتوحات الإسلامية، التي شملت أقطارًا في مختلف قارات العالم بداية بآسيا ومرورًا بإفريقيا وانتهاءً بأوروبا، فالتأثير الاجتماعي المبني على القيم الإسلامية السمحة إلى جانب التأثير العلمي الذي خلفته العربية في الحضارات الأخرى، تأثيرٌ مؤطرٌ يتدثر بِزِيٍّ ثقافي جذاب؛ يدفع بالحضارات الإنسانية إلى مزيدٍ من الإبداع والتميز، وهذا هو ديدن العربية.
إن اللغة وعاء للحضارة، وواجهة للثقافة، وعبرها يتم التأثير والتأثر ومن ثم التواصل؛ فهي الخيط الرفيع الذي يربط بين الثقافات، والجسر المتين الذي يقرّب الشعوب فيما بينها، وعبر هذه الوسيلة التواصلية تتكون وشائج الترابط بين الحضارات والثقافات العالمية.
إن الحضارة هي المكون العام لأقطاب التقدم في أي أمة من الأمم، بكافة مشتقاتها؛ الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ومن هنا تتجلى أهمية اللغة كونها الحاضن الرئيس، والسفير الأسمى لكافة هذه الأقطاب التنموية التي تتآلف لبناء كيان حضاري لأي مجتمع.
وعند الحديث عن الواجهة الحضارية لدى أي أمة من الأمم فإن ذلك يستلزم التطرق إلى الجانب السياسي الذي يشكل جزءًا من كيانها: الاقتصادي، والثقافي، والأدبي، والاجتماعي، والتنموي، إلى غير ذلك من المكونات التي تؤسس لنهضة أي أمّة، فلا يمكن لأي حضارة أن تنهض إلا بوجود حاضن جغرافي لها يتم تهيئته عبر المنجز السياسي؛ وبعد ذلك تتصاعد بقية المكونات التنموية لخلق الاستقرار في أي قطر من الأقطار، والشواهد على ذلك من حياة الأمم والمجتمعات كثيرة لا حصر لها، وفي هذا السياق يقول ابن خلدون في مقدمته: «واعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية كما قلنا فتكون قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده، ثم يكون خراجها وإنفاقها قليلاً، فيكون في الجباية حينئذٍ وفاء بأزيد منها، بل يفضل منها كثير عن حاجاتهم، ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف وعوائدها، وتجري على نهج الدول السابقة قبلها».
وبحكم تخصصي في الأدب العربي ونقده فسأتحدث هنا عن تأثير اللغة العربية في الحضارات الإنسانية وإسهامها في العلاقات الثقافية بين الأمم، وسأتناول ذلك عبر الجانب الأدبي، حيث تركت العربية أثرًا في مختلف الأجناس الأدبية بداية من الشعر وانتهاءً بالرواية والقصة، والسيرة الذاتية وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى.
لقد وُلد الشعر العربي مكتملاً بصورته التي وصلتنا عبر الرواة، ثم أمهات الكتب والشروح، ليسجل مثالاً حيًّا على تقدم البناء اللغوي والفني عند العرب، إلا أننا لا نعرف البداية الحقيقية للشعر العربي، قبل العصر الجاهلي، فامرؤ القيس بكى واستبكى ووقف على الأطلال، وهو بهذا السلوك المعرفي يسلك طريق الشعراء من قبله، كما قال في شعره:
عوجا على الطلل المحيل لأننا
نبكي الديار كما بكى ابن خذام
وبيت الشاعر امرئ القيس الملقب بـ(الملك الضليل)، يدل على وجود مراحل مر بها الشعر العربي، إلا أنه لم تصلنا هذه التدرجات في بناء الشعر العربي، فوجوده بهذا الكمال والجمال أثّر في تكوين وتحسين العديد من القصائد الشعرية في مختلف الآداب العالمية، ولعل أكثر الآداب تأثّرًا بالشعر العربي هو الشعر الفارسي، وباستعراض قصائده الخالدة سنجد تأثيرًا واضحًا تناوله النقاد العرب والفرس، ومن هذه النماذج شعر منوجهري الدامغاني، وهو أحد كبار شعراء الفرس، وكانت له مكانة كبيرة في عصره الذي عاش فيه، حتى إنه استوحى اسمه من الأمير منوجهري الذي كان يحكم في جرجان وطبرستان، في النصف الأول من القرن الخامس الهجري، وقد عاش الشاعر في كنف هذا الأمير، وتجلى في شعر تأثره العميق بالشعر العربي.
لم يكن تأثر الشاعر الفارسي منوجهري بالشعر العربي في جانبٍ معين بل كان معجبًا بالثقافة العربية عمومًا، ويظهر ذلك من خلال تأثره بعدد من الشعراء العرب من مختلف العصور، ومن ذلك تأثره بشاعر المعلقات الجاهلي امرئ القيس بن حجر، يقول منوجهري:
((الذوائب معنبرة والعقائص معقدة، والغدائر مسلسلة، والترائب مصقولة كالسجنجل)).
وهذه المقطوعة تذكرنا ببيت امرئ القيس الذي يقول فيه:
مهفهفةٌ بيضاءُ غيرُ مفاضةٍ
ترائبُها مصقُولة كالسَّجَنْجَلِ
ويظهر عبر ما ذُكر تأثر الشاعر منوجهري ببيت الشاعر امرئ القيس في الألفاظ والمعاني، مما يكشف إعجاب منوجهري بالصورة في بيت الملك الضليل، الذي يصف تلك المرأة ضامرة الخصر، وصدرها يبدي الصفاء والرقة، فمن جماله يشبه المرآة، وهذه من صفات الجمال وكثيرًا ما تُمدح بها المرأة العربية في الشعر الجاهلي.
ولسائلٍ أن يسأل ما الذي يدفع شاعرًا فارسيًا إلى الإعجاب بالشعر العربي والتأثر به، وقد أجاب الأستاذ الدكتور محمد عبدالمنعم على ذلك بقوله: «لقد كان منوجهري على علم بالشعر العربي، وكانت لديه رغبة في الاقتداء بشعراء العرب وتقليدهم وكثيرًا ما نجده يفخر بتفوقه في هذه الناحية»، فالعربية لها رونق خاص، وتتميز بقدرة على التأثير والمواكبة، وهذا ما يكشف اهتمام ملوك وزعماء الفرس والروم بالشعراء العرب، ودفعهم بالذهب والفضة لهؤلاء الشعراء، الذين يضربون الصحاري القاحلة والفيافي المقفرة من أجل الوصول إلى بلاد فارس، أو بلاد الروم، فهذا الأعشى ميمون يركب ناقته من منفوحة -أحد أحياء مدينة الرياض الآن- إلى بلاد فارس ليمدح كسرى، ومن ذلك وفادته إلى هذا الزعيم الفارسي، الذي سمعه يومًا ينشد فقال: «من هذا؟ فقالوا: اسْرُوذ كُويذَتازِي، أي: مغنَّي العرب، فأنشد:
أرقت وما هذا السُّهاد المؤرق
وما بي من سقمٍ وما بي من معشقِ
فقال كسرى: فسِّروا لنا ما قال! فقالوا: ذكر أنه سهر من غير سقم ولا عشق!».
وإذا كان الأدب الفارسي قد تأثر بالأدب العربي في شكله ومضمونه كما تشير الأمثلة التي أوردتها في سياق حديثي، فسيتبادر إلى أذهانكم سؤال مضاد هل تأثر الأدب العربي بالآداب الأخرى؟ والإجابة على ذلك ستكون: نعم، لقد تأثر الأدب العربي بغيره من الآداب الأخرى في وقت مبكر ولا أدل على ذلك من استعمال بعض الشعراء العرب الذين كانوا يحضرون مجلس كسرى لكلمات فارسية، وكان ذلك في سياق وصفهم لبعض آلات الموسيقى، وهذا يذكرنا بقول الأعشى الذي كان أحد روّاد هذا المجلس، ومن ذلك وصفه لبعض هذه الآلات، يقول:
فلأشربن ثمانيًا وثمانيًا
وَثمانِ عَشرةَ واثْنَتينِ وَأَربعا
مِن قَهوةٍ بَاتتْ بِفارسَ صَفوةً
تَدعُ الفَتى ملكًا يَميلُ مُصرعا
بِالجُلَّسَانِ وَطَيِّبٍ أَردانُهُ
بِالوَنِّ يَضربُ ِلي يَكُرُّ الإِصْبَعَا
والنَّاي نَرمٍ وَبَرْبَطٍ ذي بُحَّةٍ
والصَّنْجُ يَبْكِي شَجْوَهُ أن يُوضَعَا
إن اللغة الحية هي اللغة التي تؤثر وتتأثر بغيرها من اللغات وهذا دليل على تطورها وتقدمها وتماهيها مع العصور، كما أن احتفاظها بأصالتها على مر العصور دليل على قوتها فبإمكان أي طفل عربي أن يقرأ القرآن الكريم، أو أي قصيدة جاهلية، أو نصًا تفصلنا عنه قرونٌ طويلة وهذا من أسرار تميز العربية وقدرتها على الاستمرار والسيرورة عبر القرون الطويلة.
ومما يكشف لنا أهمية اللغة العربية وقوة تأثيرها منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، قبل دخول الإسلام للجزيرة العربية، وتأسيس دولة نظامية تمثل الكيان العربي بتفاصيله كافة، أن كسرى الفرس في ذلك الحين كان يعرف قوة العربية وسيرورتها وأنها ستُخلِّد ذكره عبر الزمن وهذا ما حدث بالفعل؛ فيفصلنا الآن أكثر من ألفٍ وخمسمئة عام عن ذلك الملك الفارسي الذي استقبل الأعشى وأحسن وفادته، كما أن معرفة قيمة العربية لم تقتصر على ملوك الشرق، فهذا قيصر الروم بعد أن وفد إليه شاعر المعلقات امرؤ القيس بن حجر وطلب منه العون والمساعدة في الأخذ بثأر أبيه حُجر من بني أسد الذين أخذوا في التقاعس عن دفع ما فرضه عليهم من إتاوة فدار بينهم وبين الملك نزاع فقتلوه، ولما وصل الخبر إلى امرئ القيس وهو غارق في اللهو والملذات، قال: «الخمر عليّ والنساء حرام حتى أقتل من بني أسد مئة رجل وأجز نواصي مئة، ضيّعني صغيرًا، وحملني دمه كبيرًا، لا صحو اليوم ولا سكر غدًا اليوم خمر وغدًا أمر»، وقد كان في دَمّون في اليمن بحضرموت، ولما عاد جد في طلب الثأر من قتلة أبيه فاستعان ببكر وتغلب فأعانوه إلا أن أمد الحرب طال فانفضَّت القبائل عنه، فسار إلى القيصر فاستقبله وأحسن وفادته وأرسل معه جيشًا عاد به إلى نجد، فوشى به الشاعر الطّمّاح عند القيصر وقال إن امرأ القيس يتغزل في ابنتك فصدّق القيصر قول الطمّاح وأرسل لامرئ القيس حُلّةً مسمومةً فلبسها فسرى السم في جسمه ومرض بأنقرة، فأنشد:
لقد طمح الطّمّاح من بعد أرضه
ليلبسني مما يلبِس أَبؤُسًا
فلو أنها نفس تموت سوية
ولكنها نفس تساقط أنفسا
وكانت وفاته كما أرخ لها رائد تحقيق الشعر العربي، الأستاذ الدكتور: عبدالعزيز بن محمد الفيصل، في كتابه: شعراء المعلقات العشر، سنة 80 قبل الهجرة، أي عام 545م، وفي هذه الأبيات والأخبار دليل على تأثير العربية في زعماء الأمم الأخرى شرقًا وغربًا؛ يدفعهم إلى ذلك إيمانهم بقوة العربية، وقدرتها على التأثير، وسيرورتها عبر الزمن ولا أدل على ذلك من طرحنا لهذا الموضوع الحيوي الذي يؤرخ لأحداثٍ وأخبارٍ مضى عليها قرونٌ طويلة، أثبتت مهمة العربية في بناء الحضارات الأخرى، ودورها في تكوين الآداب العالمية التي تشكل جزءًا حيويًا من الحضارة الإنسانية، ومهمَّتها الفعالة في الاتصال الثقافي الذي كان بين العرب والأمم المجاورة لهم، وأن ذلك قد تجاوز مرحلة التكوين إلى الاندماج، مما جعل العربية جزءًا من الإرث الثقافي لديهم، ويختلف مستوى الإسهام الحضاري للعربية في الحضارات الأخرى وفق مستوى التأثير وقوته، فاللغة الفارسية تُكتب بالأحرف العربية، وكثير من ألفاظها هي من أصول عربية، كما أن الفرس لم ينظموا الشعر موزونًا إلا بعد تأثرهم بالعرب، كما أن كثيرًا من الملامح الأدبية لديهم لم تتشكل إلا بعد وصول الشعر العربي إليهم وتأثرهم به، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا السياق أن عملية التأثر والتأثير بين الحضارات تُمثّل ترجمة للتبادل الثقافي التواصلي بين شعوب هذه الأمم الذين بنوا هذه الحضارات وأسسوها على قيم التعايش المشترك، ولهذا سنجد أن أكثر الحضارات جمالاً هي التي تتأثر بغيرها، لينعكس هذا التأثير على جانب معين في هذه الحضارة وهو الأدب، فالتواصل الأدبي كما يصفه الأستاذ الدكتور صالح بن رمضان: «شكل من أشكال تطوير التواصل اللغوي الاجتماعي الذي يكون في ذاته الوسط الطبيعي الذي يعيش فيه الإنسان، وهو الهواء الذي يتنفسه، وبه يرتقي فكره، وبه يتمكن من التأقلم مع محيطه الاجتماعي»، وهذا هو جوهر الرسالة التي يحملها الأدب في أي حضارة من الحضارات.
* هذه المحاضرة سبق أن ألقيت بجامعة نابولي في إيطاليا بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية