«أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرها ويختصم»
أشغل المتنبي النقاد بشعره، فوجدوا فيه مادة ثرَّة، وأُخضع شعره لعمليات تجارب، حيث وظف النُّقاد المناهج قدميها وحديثها لدراسة شعره، ولم يهمله أئمة اللغة العربية وكل مشتغل بالشعر.
ولقد أسهم الجمهور في استمرارية هذا التلقي، وشعره امتاز بالعديد من الميزات التي ضَمِنت له البقاء والذيوع، فاستدعاء قصائد المتنبي على الألسن في المقامات المختلفة يدلُّ على مكانةِ المتنبي وشعره في نفوس جمهور الشّعر العربي، وبنظرة سريعة في وسائل الإعلام الجديد يتبين لنا كيف تستدعي الجماهير قصائد المتنبي في مقامات الاعتزاز بالنفس والدفاع عنها، وبث ما فيها من حكمة فهي بمثابة سلاح يوظفه الجمهور في ساحات الجدال إذ يمثل استدعائها قيمة حجاجية عند الجمهور.
?ولو لم يكن الجمهور لكانت هذه القصائد حديث الأروقة الأكاديمية، فالجمهور جعل من المتنبي رمزا شعريا اتفق على فرادته، وانتخب الجمهور لكلّ زمان متنبيه، وهذا لقب احتفائي تضعه الجماهير لكلِّ من يشبع الفراغ الذي تركه المتنبي، فأطلق الجمهور على البردوني متنبي هذا الزمان، وكثير من الشعراء حملوا هذا اللقب، ولكنه لقب عابر تضعه الجماهير لكل من يحمل علامة تفوق في الشِّعر من وجهة نظرها، ويُنسى هذا اللقب مع مرور الزمن، وتظل الجماهير في بحثٍ عن متنبي لزمانها، فهي تنتشي مع كل اسم صاعد ولكن يبقى المتنبي هو شاعر الجماهير.
والمتنبي اليوم يعيش بيننا ويملك في كل فضاء افتراضي حسابات ومواقع تبث أشعاره.
والملاحظ أن الحسابات الافتراضية التي تُنسب إلى المتنبي تمرر خطابات لا تنسب إليه، ولا يجب أن نحسن النية في هذه الخطابات التي تُمرر من حسابه؛ فالجمهور وضع ثقته في المتنبي، وكل قول منه هو القول الحسن، ولا يبحث ـ الجمهور ـ عن المصدر، بل نجد تناقلًا للنص المنسوب دون أي تروٍ، وهذا فخ وقع فيه الجمهور، من ناقل ربما لا يملك نوايا حسنة، فإشاعة نص من حساب المتنبي ومنسوب له، يجعل النص أكثر ذيوعًا وديمومة وتناقلًا مقارنة بوضعه في أي موقع آخر.
هنا نتحدث عن سلطوية الجمهور الذي أصبح يوجّه متنبي هذا الزمان فغلبت الكِثرة وعلو الصوت تفوق المتنبي، إذ أصبح صاحب الحساب الافتراضي ينشر ما يحبه الجمهور ويتفاعل معه وما لغته ومضمونه قريبة من الجمهور وينسبها للمتنبي رغبة منه في تناقلها.
وتهافت الجمهور على شعره بعد مرور هذه الفترة الزمنية الطويلة يضعنا أمام عدد من التساؤلات منها: ما أسباب استمرارية التلقي الجماهيري لشعر المتنبي؟
وهذا يجعلنا نعود إلى شعر المتنبي وما يميزه، فله فلسفة خاصة في مسائل الحكمة والحماسة والمدح والرثاء، ويملك ذوق عال في التعبير والبيان ويوظف الأساليب البلاغيّة والحجج المنطقية في شعره.
ونحن ندعو إلى تطبيق منهج علمي؛ لدراسة خطابه وخطاب جمهوره، ينضوي تحت مشروع بلاغة الجمهور ويوظف ما توصل إليه المشروع من أدوات بلاغية ونقدية، ويقترض من المعارف الأخرى ما يسدّ حاجته ويفض بين إشكالاته.
وهذا الفكرة مشروع بحثي أتمنى أن يظهر إلى النّور أو يتلقفه باحث يوظف فيه المناهج المعنية للإجابة عن هذا السؤال، الذي أسهمت الجماهير في تسهيل الإجابة عليه؛ فحجم التلقي والتدفق اليومي للاستجابات اللغوية المكتوبة والمنشورة في وسائل الإعلام الجديد أثبتت التأثير واستمرارية التلقي، وتفرض الدراسة المقترحة الاستعانة بأدوات خاصة للجمع بين خطابين مضادين تتلاءم مع خصوصية كل خطاب.
** **
- رحمة القرشي