حين قُضي الأمر، واستوت سفينة صاحبنا على شاطئ قسم اللغة العربية، ووضع قدميه على رماله، سار حتى جلس مع زملائه في أول يوم دراسيّ آخرَ أيام شهر صفر من عام 1410ه (آخر سبتمبر 1989م)، في أول قاعة على يمين الدّاخل إلى كلية الآداب بجامعة الملك سعود، ينتظرون دخول أستاذ مقرر الصَّرف الذي لم يُحدَّد لهم، وكانوا لمعرفته متشوّقين متهيّبين، وكان هو أكثرهم شوقًا وترقّبًا في محاضرته الأولى في القسم.
وفجأة أطلّ عليهم وجهٌ من أعلى باب القاعة لا يعرفونه؛ فانقطعت الأصوات، وهدأت الأرجاء، ووقع في نفس صاحبنا هيبةٌ شديدة، وسمع الجميع صوتًا شاميًّا له وقع في الأذن والنّفس يسأل: «صرف أوّل؟»، وحين أجابوه بالإيجاب دخل رجل طُوال، عمره في الستينات، تغلبُ ملامحُ الجدّ على ابتسامتِه الصّافيةِ اللطيفةِ، وتعلّقت العيون بالأستاذ، حتى إذا تكلّم علقت به الألباب!
كان ذاك أستاذَه عاصم بن بهجة البيطار رحمه الله(*)، الذي يعتزّ بأستاذيّته أيّما اعتزاز؛ فقد كان عالـِمًا لُغويًّا، وبحرًا واسعًا، وجبلًا أشمَّ. نشأ في بيت علم ودين؛ فأبوه عالم الشام الكبير محمّد بهجة البيطار رحمه الله، لازمه ونهل منه حتى ارتوى، فسقى طلّابه في حقول واسعة كثيرة ماءً نَميرًا زلالًا.
وصاحبنا المحبّ لم يتشرّف ــ لسوء حظِّه ــ بالنّهل من علمه إلا في فصل دراسيّ وحيد، لكنّ القليل عند أستاذٍ كأستاذه «لا يُقال له قليلُ». ومن جميل ذكرياته في ذلك الزمن أنّ أستاذه عاصم درّسه في أوّل عهده بقسم اللغة العربية، بعد انتقاله إليه من الجهة المقابلة؛ فكان من الفأل الحسن أنْ يدرّسه، وأنْ تعقب محاضراتِه محاضراتُ أستاذٍ جليل آخر هو الدكتور عبدالكريم بن محمّد الأسعد رحمه الله.
اندمج صاحبنا مع محاضرات أستاذه وانصهر، وأحبَّها حتى استمتع، وتعلّق بها حتى لم يُفوّتها، وراقه ابتداءً في أستاذه لغةُ حديثه فقد كان يتحدّث بلغة فصيحة، سهلة قريبة، تُزيّنها نغمة شاميّة، عذبة جميلة؛ وتلك خصلة أولى.
وكان في شرحه كثير التطبيق، دائم التمثيل، لا يجلس إلا قليلًا، فلم يقعد به تقدّمُ سنّه، بل نهض به علوّ همته؛ حتى رسم في عقل تلميذه ما يشبه الخريطة للأوزان الصرفيّة، وغرس في عقله شجرتها، وجلّى تفاصيلها؛ وتلك خصلة ثانية.
وكان يُوجز إذا عرض، ويُفهم إذا شرح، ويجيب قبل أنْ يُسأل، ويشفي إذا أجاب؛ فلا يبقى في نفس الطالب شيء، ويتشرّب الموضوع ويحفظ أمثلته؛ وتلك خصلة ثالثة.
سأله يومًا خارج القاعة عن كتاب له في الصرف؛ فأخرج له نسخة مكتوبة على الآلة الكاتبة من كتابه «الصرف»؛ ففرح بنسخة الكتاب أيّما فرح، وخرج من يومه فجلّده وقرأه، وأضافه إلى مكتبته. وفي كلّ مرة يطالعه أو يقرأ فيه يرى طيفَ أستاذه وطريقتَه الفذّة في كثرة التطبيق، وفي الشرح والإفهام بأيسر طريق.
واتّصف الأستاذ الأشمّ بما يتّصف به الأساتذة النابهون والمربّون النّاجحون من صفات الجدّ والعطاء، وكان يحبّ أنْ يغرس ذلك في نفوس طلّابه، وأن يعوّدهم على طلب المعالي. وقف يومًا ليبدأ الشرح فسأله طالب وتبعه آخرون أنْ يخفِّف عنهم حصّة الاختبار القادم، وأكثروا عليه، وهو صامتٌ يتمعّر وجهه، ثم جلس وسكت دقيقة أدرك فيها المطالبون أنّ طلبهم لم يقع موقعًا حسنًا في نفس أستاذهم فصمتوا، ثمّ قال بلهجة حزينة تحمل نبراتُها قبل حروفها رسالةً بليغة: كيف يمكنكم أنْ تُحقِّقوا ما تصبون إليه إذا لم تتعال هممكم، وتسمو غاياتكم؟ وكيف يمكنكم أنْ تُحصِّلوا علمًا من غير كدٍّ ووُكد؟! قبل قرابة خمسين عامًا كنّا في بيتنا في الشام بعد العِشاء ننتظر العَشاء وكنّا نتضوّر جوعًا، وتتمايل رؤوسنا نعاسًا، لكنّا ننتظر والدي، وهو في ساحة البيت واقفًا، يقرأ في كتاب تحت ضوء مصباح صغير، لا يكاد يشعر بما حوله، فلمّا تأخّر دعوناه، فاستمهلَنا قليلًا، لكنّ قليله طال وهو على تلك الحال، فعدنا إليه معيدين؛ فاستمهلَنا حتى غلبنا النّعاس، فعدنا إليه مكرّرين؛ فاعتذر قائلًا: «بيدي مسألة أريد أنْ أتمّ القراءة فيها؛ فلا تنتظروني»، فأطعنا وأكلنا ونمنا. لكني فوجئت حين استيقظت لصلاة الفجر أنّ والدي في مقامه وهيئته التي فارقناه عليها؛ فصحت متعجِّبًا: «أما زلت على حالك منذ فارقناك البارحة؟!»؛ فانتبه من استغراقه، وسألني عن الوقت، فقلت: «قد دخل وقت الفجر»، فتفاجأ وقال: «والله يا بُنيّ قد استغرقت في القراءة حتى لم أشعر بمضيّ الوقت، ولا بحاجة للأكل أو النوم»!
ومن الذكريات معه أنْ دخل للقاعة يومًا فوجد على سبّورتها بيت حُميد بن ثور الهلالي:
ينام بإحدى مُقلتـيهِ ويـتَّقي
بأخرى الأعادي فهو يقظانُ هاجعُ
فوقف يقرأ البيت ويتبسّم، وظلّ هكذا لحظات وكأنه يقاوم الحديث فيه حتى لم يُطق على ذلك صبرًا؛ فكتب بيتين بعده وانطلق في عشر دقائق يشرح الأبيات ويحلّل بعض جمالياتها، في شرح شائق ماتع، ويحسبه صاحبنا لم يكتف إلا ليعود إلى درسه؛ فسأله راغبًا أنْ يستثيره: «لماذا لا تدرّس الأدب والبلاغة؟»، فقال: «لو فعلتُ لاستمتعتُ وأمتعتُ»، ولا يزال ذاك الطالب يودّ لو فعل!
أحبَّ صاحبُنا أستاذَه وأحبّ الحديثَ معه فكان يقتنص أيّ فرصة ليحادثه؛ زاره في مكتبه يومًا وسأله: «أراك يا دكتور كتبتَ اسمك على لوحة مكتبك من غير أنْ يسبقه حرف الدّال؛ فهل هذا منك لأنه لفظ أعجميّ؟»، فأجابه ضاحكًا: «لا، بل هو الواقع، فأنا لم أحصل على الدكتوراه ولا على الماجستير، وإنّما قال لي والدي عليه رحمة الله: تعال يا بُنيّ أزوِّجك وأدرّسك؛ ففعل»، وكانت إحدى رسائله البليغة القارّة في نفس الفتى.
حاز الجمال حتى في خطّه المتّشح بأناقة الخط الفارسي وسهولة خطّ الرقعة ووضوح خط النسخ؛ فكان مزاجه من جمال! يذكّره جمالُ الخط الذي كان يكتب به اختباراته بقصة طريفة لهما؛ إذْ حصل في اختباره الأول مع أستاذه على ثماني عشرة درجة من عشرين، ووجد أنه يستحق أكثر لأنه لم يجد في ورقته أخطاء، ولا يريد في الوقت ذاته ـــ لمكانة أستاذه في نفسه ـــ أنْ يناقشه، فجاءه في مكتبه وسأله كعادته في مسائل متفرّقة، حتى اهتبل فرصةً سنحت لينفذ إلى ما يريد، لكنّ أستاذه اعتذر عن أيّ تعديل في الدرجة. وخرج صاحبنا من أستاذه مبتسمًا راضيًا؛ لعلمه أنّ ما أفاده منه لا يُقدّر بثمن، وأنّ أيّ درجة عنده مقبولة لديه، وأنّ ذكراه الطيّبة ستظلّ منقوشة في قلبه، ولم يزل يدعو له، ويترحّم عليه، ويشعر بغُصّة النّدم إذْ فرّط فلم يُدم الصِّلة أو يُطلْها!
... ... ... ... ...
* وُلد عام 1927م في دمشق، وتوفي بها يوم الجمعة الرابع والعشرين من شهر يونيو عام 2005م
** **
- أ. د. أحمد بن صالح السديس