د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** لم تتهيأْ لنا الأسبابُ فاستبدلنا بها الرفقة، وقلَّت الرواحلُ الباذخة فاستعضنا بها السفر العابر، ولا مشكلة حين تتعطلُ بنا الحافلةُ في الطريق؛ إذ اعتدنا ذلك من غير ضجرٍ أو كدر، ولم تكن المقاعدُ مرفهةً لكنّ الأهمَّ رفاهيةُ الركاب: يخلقونها ولا يختلقونها، ويأنسون بها ولا ينتظرون من يؤنسهم فيها، وفيما عدا السائق ومشرف الرحلة فإن متوسط الأعمار لا يتخطى الخامسة عشرة، والمرتحلون طلبة في المرحلتين المتوسطة والثانوية هيأتْ لهم مدارسهم ومعاهدهم ومراكزهم المشاركةَ في هذا النشاط السنويّ ليتنقلوا بين مناطق الوطن فيعرفوا ويتعرفوا.
** كانت (أمُّ النخيل) - وفق وصف القصيبي - أو «الأم» - بإطلاق جاسم الصحيّح - وجهتَنا أكثر من مرة، ورأيناها نخلةً وأمًا ومنطقة دفءٍ وموسوعة ثقافة قرأنا فيها تاريخَ الكنعانيين والكلدانيين والفينيقيين والقرامطة والعيونيين والخوالد ومَن بينهم، وارتدنا أول مسجدٍ بعد مسجدي المدينة، وسبح بعضنا في العيون، وانتشينا بهواء «قارة»، وقبلها وبعدها بجمال أهلها وكرمهم.
** ارتبط صاحبكم وقتها بصديق أحسائي في عمرٍ يقاربُه، وصرنا نتبادلُ الرسائل المرفقة بصورٍ وتعليق: (الذكرى ناقوسٌ يدقُّ في عالم النسيان)، وهي عبارةٌ استوقفته بإيحائها، ثم اكتشف أن الكلَّ يتناقلونها فبدتْ باردةً متكلفة.
** يستعيدُ ملامحَ من لقاءاته بصديقه الأحسائيّ: محمد العمير الذي انقطع الوصلُ معه منذ عقود، ويدعو الله أن يكونَ بخير، ويذكرُ أنه دعاه إلى منزله، وأبلغه بالوصف، ورسم له خارطةً يدويةً كي تيسر له الوصول؛ فاستقلَّ صاحبكم سيارة أجرة، وحين اقترب من المكان في الحي الذي يقطنه الأخ محمد وجد علاماتٍ على الجدران الطينية بأسهمٍ وألوانٍ مميزة قادته إلى الباب مباشرة حيث كان ينتظر.
** فوجئَ بهذا الكرم المتناهي، ومبعثُه توفير الوقت إذ لا وقت متاحًا قبل عودة القافلة، وضمانُ الوصول فلم يكن ثمَّ هاتفٌ ولا شبكاتٌ ولا تحديدُ مواقع، والوسيلة المتاحةُ مثلٌ متداول: (البدوي يمشي ويَنشد)، أي: يسأل ولن يتيه، لكن محمدًا لم يترك مجالًا لأحدٍ سوى أريحيته وصدق محبته، ولم يسألْه صاحبُكم: هل غرمته البلدية عما خطَّه على الجدران؟ وما هو موقفُ الجيران الذين «رشَّ» على بيوتهم مخططًا ملونًا عفويًا، وتذكر جدران مدينته وأبوابها وهي ملأى بالخربشات التي اشتهر منها آنذاك: (عِطْرة فلان)، وهي عبارةُ ذمٍ لم يفهم حتى اللحظة معناها ومن أين اشتُقَّت؟!، ومثَّل قسمٌ كبيرٌ منها مرآة الرأي العام، ولعلَّ لها حديثًا يجيء.
** رعى الله أيامًا غادرت وما غدرت، وانصرمَ زمنُها وناسُها فظلت ذاكرةُ الوفاء تفيءُ إليها حين يصلفُ الهجير وتتساقطُ أوراقُ الخريف، ولا يبقى لنا غدٌ نرنو إليه سوى رحمة الله وعفوه.
** الماضي يأسو ويُتأسّى.