د. نورة سعيد القحطاني
اللغة وسيلة الإنسان للتواصل مع غيره من جهة، وهي لغة التواصل مع المنجزات الحضارية والإبداعية. واللغة اليوم هي قوة مؤثرة أكثر من أي وقت مضى في ظل سيولة الكلمة عبر وسائل الاتصال والتواصل الحديثة. واللغة كما نعلم أسلوب حياة متكامل، هي لغة الفكر، الحضارة والعلم، ولغتنا العربية تحديدًا حملت لنا على مدى قرون حضارةً حيةً وثقافةً ثريةً وإبداعًا إنسانيًا متفردًا. ومن الأهمية بمكان أن نشير إلى الرابط القوي بين الهوية واللغة، فالهوية لغة ودين وتاريخ، وأي تفريط بهذه الأركان هو تفريط بهوية الحاضر والمستقبل. وفي حديثنا هنا سنركز على دور الإعلام والإعلان في تعزيز الفصحى أو تراجعها.
للإعلام دور مهم في تقريب المسافة بين الفصحى والعامية وتجسير التواصل بين مختلف الفئات. وفي وقتٍ مضى كان للإذاعة العربية دور كبير في دعم الفصحى ونشرها المستمعين العرب، وتعزيز الاستخدام السليم لها ممارسة وتفاعلًا. كما كان للرائي/التلفاز دور مهم في إثراء اللغة العربية وإثراء المعجم اللغوي العربي بإضافات ومفردات جديدة. حينها كانت الفصحى هي المعتمدة في تقديم البرامج التلفزيونية وكان إتقانها والبعد عن اللهجات المحلية يدخل ضمن إعداد الإعلاميين واختيارهم لتقديم أهم البرامج المرئية والمسموعة. كل ذلك الحرص كان إيمانًا بأن الفصحى هي اللغة التي يفهمها جميع العرب من الخليج إلى المحيط، وهي من نخاطب بها العالم ويخاطبنا العالم بها، وليست العامية التي تهبط بالأسلوب إلى مستوىً متدنٍ من ركاكة التعبير وغموض المعنى. وكما نعلم فالإعلام اشتهر بأنه (السلطة الرابعة) نظرًا لتأثيره الكبير على الجماهير والرأي العام لإقناعهم برأي ما، أو المساهمة برفع الوعي الفكري أو الاجتماعي نحو قضية محددة. وأداة هذا التأثير هي اللغة التي يجب أن تحظى بعناية شديدة على مستوى اختيار اللفظ، والتراكيب السليمة للجمل والعبارات بأسلوب مؤثر يضمن وصول الرسالة. وقد نقل كثيرون عن نابليون قوله: «إن أربعَ صحف تستطيع أن تلحق الهزيمة بالعدو أكثر من جيشٍ قوامه مئة ألف» -إن صحت نسبة هذا القول له-. ومن منطلق هذه القوة للإعلام فإن دوره بات واضحًا في تعزيز الفصحى أو هدمها.
وفي زمنٍ مضى كانت الإذاعات العربية تستعين بكبار الأدباء والمفكرين وأساتذة اللغة لتقديم بعض البرامج الإذاعية، (فالمصرية مثلًا) استعانت بطه حسين والعقاد والزيات وغيرهم، ومثلهم هنا في إذاعتنا السعودية كان الأدباء والمفكرين يقدمون برامجًا فكرية وثقافية متميزة والأمثلة كثيرة وكلكم تحتفظ ذاكرته بجمال ذلك الزمن وعمق ما كان يطرح في الإذاعة من عمالقة الأدب والفكر. ولذا كان لهذه البرامج قدرة كبيرة على التأثير في الجماهير ودعم العربية الفصحى وتعزيز حضورها بيسر وسهولة. كما كان لبرامج الأطفال -كما نعلم- في فترة مزدهرة للتلفاز العربي دور كبير في تيسير الفصحى للصغار وتقريب قواعد اللغة إلى أذهانهم (مدينة القواعد، المناهل، افتح ياسمسم) كلها نماذج كان لها دور فعال في صقل المهارات اللغوية للأطفال والارتقاء بأساليبهم التعبيرية نطقًا وكتابة.
أما اليوم فأغلب برامج الأطفال تقدّم باللهجة العامية ولن تعد تهتم باستخدام الفصحى استخدامًا سليمًا. فبعد انتشار القنوات الفضائية تراجعت سياسات البرامج التلفزيونية عن الالتزام بالفصحى البسيطة في البرامج الموجهة للأطفال، وهذا حقًا خطأ ارتكبته هذه القنوات في حق اللغة العربية وفي حق النشء الذي يعاني اليوم من ضعف عام تسلل إلى مهاراتهم اللغوية واستمر معهم حتى في مراحل دراسية عليا.
وقضية العامية والإعلام ليست بالجديدة بل تحدث عنها كثيرون منذ بداية عصر النهضة في العالم العربي حيث كانت من أبرز القضايا التي تصدى لها كبار الأدباء في تلك الفترة. فعندما نادى لطفي السيد بتمصير اللغة العربية، خالفه الرافعي ودافع عن الفصحى. وكانت وما زالت قضية طغيان العامية في وسائل الإعلام وإحلالها محل الفصحى من أهم التحديات التي تواجه اللغة العربية. وقد شغلت هذه القضية اهتمام مجامع اللغة العربية وعقدت لها مؤتمرات كان أبرزها المؤتمر السنوي السادس والستين لمجمع اللغة العربية بالقاهرة عام 2000 الذي جاء تحت عنوان: (الفصحى والعامية في لغة الإعلام)، ووقف المشاركون وقفة عميقة ومتخصصة لمناقشة تحديات هذه القضية وأساليب علاجها.
وإذا عدنا إلى حال العربية في الصحف والمجلات المحلية وجدنا صفحات (بعضها) تمتلئ بالأخطاء النحوية واللغوية، والأساليب العامية الركيكة، في حين أن لغة الكتابة يجب أن تظل فصحى سليمة من اللحن والركاكة لمن يقبل العامية في الكلام المنطوق. ونحن هنا نتساءل: هل ما زال دور المحرر اللغوي قائمًا وفاعلًا في هذه الصحف وفي البرامج الإذاعية والتلفزيونية؟
فجلّ البرامج التي تذاع اليوم تقدّم بالعامية، ولم ينج حتى الآن سوى نشرات الأخبار رغم ما يشوب بعضها أحيانًا من ضعف لغوي. وحجة بعضهم عدم قدرة الفصحى أو حتى العربية على إيصال الأفكار بنفس الألفاظ والمعاني التي يريدونها بنفس الصورة التي تقدمها لهم العامية أو الإنجليزية. وهي حجة واهية فالعربية من أكثر اللغات الغنية بالمفردات والاشتقاق هيأ لها ما لم تحرزه لغة أخرى، والفصحى توحد الشعوب العربية على لغة واحدة مفهومة، بينما العامية تصل إلى أكثر من 21 لهجة عربية تسيء الفهم وتورث الغموض، فما يقال في بلد عربي يفهم في لهجة أخرى بشكلٍ مختلف. وتبني العامية سيجعل الفصحى في عصرٍ ما غريبة على أبنائها.
ومما يسيء للفصحى أيضًا في الإعلام استخدامها في سياق السخرية في بعض البرامج والأفلام العربية التي صور بعضها معلم اللغة العربية مثلًا بصورة ساخرة تعكس رجعية شخصيته وعدم مجاراته للتقدم والتطور الذي يبرز في صورة استخدام لغة أجنبية أو تعبيرات عامية. ونعلم حجم تأثير الممثل والمغني وأصحاب الجماهيرية العالية الذين تصدروا المشهد العربي وغدا تأثيرهم على المتلقي كبير وخاصة من جيل الشباب، وبالتالي سينقل موقف الاستهتار بالفصحى حتمًا إلى من يتابعه من شباب العرب. وقد شهد للعربية الغريب قبل القريب فهذا الأمريكي (وليم ورل) يرد على هذه التهم بقوله: «إن للغة العربية من اللين، والمرونة، ما يمكنها من التكيف وفق مقتضيات هذا العصر، وهي لم تتقهقر فيما مضى أمام أية لغة أخرى، من اللغات التي احتكت بها، وستحافظ على كيانها في المستقبل، كما حافظت عليه في الماضي».
وإذا انتقلنا إلى لغة الإعلان وجدنا اللهجات العامية قد طغت على خطاب كثير منها بشكلٍ يستدعي الوقوف عنده لفهم هذا المدّ العامي الذي تسيد المنتج الإعلاني في التلفاز والإذاعة وفي الشارع والأسواق وغيرها. والمعلِن أصبح هو المتحكم فيما تنشره وسائل الإعلام ويفرض عليها لغة الإعلان بحكم ما يدفعه مقابل بث الإعلان ونشره، مما يؤثر بطبيعة الحال على المتلقي وثقافته ولغته. فالإعلان يكمن تأثيره في كونه رسالة قصيرة موجهة وجاذبة في أحيان كثيرة بحركتها وألوانها وفكرتها، فهو مصمم أساسًا لجذب المستهلك والتأثير فيه، وهنا (الغاية تبرر الوسيلة) بالنسبة لوكالة الإعلان والمعلِن. ويزداد خطر تأثيره بالتكرار فهو يعرض كثيرًا وبوسائل مختلفة مرئية ومسموعة ومقروءة وتقريبًا نجده حولنا في كل مكان. وعندها ترسخ العبارات في الذهن مع تكرارها ويرددها الصغير قبل الكبير ويقلدها كثيرون في جدهم ولعبهم. وهنا يعظم دور الإعلان في تعزيز الفصحى أو هدمها. فالغالب هو استعمال العامية بحجة قربها من الجمهور لضمان رواج سلعة معينة. وتبرر إحدى مسؤولات وكالة إعلانية تصاعد قوة العامية وتفضيلها في الإعلان بقولها: «سماعنا واستخدامنا العامية يومياً في الحديث والقراءة، مضافاً إليها استخدام كلمات أجنبية بدل التعريب، يجعل الفصحى مهجورة وغريبة على الأذن، بعيدة عن المعتاد في الواقع، وبالتالي أقل تأثيراً على مشاعرنا». ويرى مسؤول آخر أن استخدام العامية أفضل في الإعلان لأنها الأقرب لواقع الناس: «يجب أن يكون الإعلان باللهجة المحلية. أنت تتخاطب مع جمهور أهل البلد، فتكتب عن أحداث تحصل بينهم، وتحاول أن تُحضر شخصيات منهم، ثم بعد هذا وذاك تجعل الخطاب باللغة الفصحى؟! هذا يخلق حاجزًا بسيطًا في نفسية المشاهد، قد لا تحقق من ورائه الوصول لهدف رسالتك»، كيف تقنع هؤلاء بإجحافهم في حق لغتهم، فالفصحى فيها من الفصاحة والإيجاز ما هو أبلغ وأوقع في النفس من العامية التي قد يُساء فهمها. ولعلنا نشير إلى مثال بسيط: قبل فترة زمنية انتشرت حملة دعائية ضخمة لإحدى قنوات التلفزيون السعودي وملأت الشوارع عبارة «تبونا نسكت»، وبعد أيام من ذلك أطلقت عبارة «ماحنا بساكتين»، وكيف سيقرأ العربي المقيم بيننا هذه الجمل التي جاءت محكية باللهجة المحلية، بل كيف سيقرأها سعودي من منطقة مختلفة في وطن يمتد شرقًا وغرباً وشمالاً وجنوباً على مساحات شاسعة ولأهل كل منطقة مفردة يستخدمهاشكلٍ مختلف عن منطقة أخرى. ومثل هذه الإعلانات تشوّه اللغة وتؤثر على المتلقي. وكثير من أساتذة اللغة والمهتمين بها حذروا من دخول اللهجة العامية بديلاً للفصحى ونادوا بضرورة كتابة الإعلانات واللوحات بالفصحى السليمة حتى تقرأ بشكلٍ صحيح. وحبذا لو عملت الجهة المسؤولة عن إصدار الترخيص أو التصريح للوحات الإعلانات في الشوارع والأماكن العامة على التدقيق في لغة هذه الإعلانات وعدم الموافقة عليها إلا إذا كانت بلغة عربية سليمة. ولعلي هنا أشير إلى تجربة مجمع اللغة العربية في الأردن الذي عمل على تطبيق قانون «حماية اللغة العربية» الذي يلزم المؤسسات والمحال التجارية باستخدام الفصحى السليمة وتنقية اللغة من أي تشويه في لوحات المحلات التجارية أو اللوحات الدعائية.
ومع انتشار وسائل ا لإعلام الجديد دخل مفهوم الإعلان الرقمي على وسائل التواصل، وصارت العامية السعودية مكتوبة أكثر وأكثر، فيما ظلت شركات قليلة تحافظ على الفصحى حتى اليوم. ويقع على عاتق وزارة الإعلام وأمانات المناطق دور المتابعة وسن القوانين والضوابط التي تحكم لغة الإعلام والإعلان، ومراعاة تعزيز الفصحى كجزء من الهوية الوطنية التي وضعتها رؤية 2030 ضمن اهتماماتها وأهم أهدافها. ونأمل أن يلتفت القائمون على الإعلام إلى هذه الإشكاليات والتحديات ويحاولون الحد من آثارها تطبيقًا للسياسة الإعلامية للمملكة العربية السعودية التي أكدت في المادة 15 و17 على ضرورة الارتقاء بمستوى المادة الإعلامية والالتزام بقواعد العربية نحوًا وصرفًا وسلامة في التعبير وصحة في الألفاظ. ونحتاج إلى تعاون فاعل بين أقسام الإعلام واللغة العربية في الجامعات لدراسة هذه الإشكالية ومعالجة الضعف اللغوي وإعداد الإعلاميين إعدادًا لغويًا سليمًا.