في نقاشاتنا وأحاديثنا حول القصّة القصيرة كنت أتبنّى دائمًا فكرة أنّ القصة إن خلت من معانٍ عميقةٍ ورسائلَ مشفَّرةٍ قد لا يصحُّ وضعها ضمن خانة القصّة القصيرة، وتكون أقرب إلى الحكاية المرويّة التي يتناقلها ويسردها العوامّ؛ وكنت أتحدّث أيضاً عن البداية المحفِّزة، والنهاية المخاتلة، والعقدة في ربطها وحلّها، وتنامي الحدث، والإيقاع الزمنيّ بتسارعه المنطقيّ، ونوعيّة الأفعال المستخدَمة، والتكثيف، والاختزال، والأسلوب الكتابيّ المتقَن؛ هذا عدا عن خلوِّ هذه الأقاصيص من الجمل الخبريّة والوعظ المباشر... وإلى ما هنالك من أسسٍ وقواعدَ أظنّ أنّ القصّة القصيرة لا تكتمل إلا بها.
في نقاشاتي تلك كنت أكيِّفُ النصوص التي تتعارض مع الفكرة التي أؤمن بها، وأطوِّعها، حتّى تنسجمَ مع ما أؤمن به؛ من ذلك، حديثي المسهب الذي تناولت فيه الفكرة التي تحدّث عنها الكاتب العالميّ الأرجنتينيّ «فرناندو سورنتينو»، عندما صرّحَ بأنّه يَكتب القصّة من أجل القصّة فقط، ولا يسعى من خلالها إلى تحميلها ما لا تحتمل، بتوظيفها في الوعظ، أو تغيير الاتّجاهات، أو إقحامها في مجال السياسة، أو التكلُّف في متنها وبدايتها ونهايتها... وما إلى ذلك من تقنيّات يتصنّعها بعض الكُتّاب لتجميل قصصهم، أو يجعلونها هدفًا فتُفقِد القصّةَ قيمتَها الحقيقيّة. ولقد ذكرت يومها أنّ «فرناندو» - يقينًا - لا يقصد خلوَّ القصّة من كلّ ذلك الإبداع الذي لا يكتمل العمل بدونه - وكنت بالتأكيد محقًّا في ذلك - وأنّه إنّما أراد الإشارة فقط إلى أنّه لا يتكلّف ذلك وإنّما يجري به مدادُه دون قصْدٍ منه؛ وأوردت يومها قصّة هذا الكاتب العبقري المعنونة «الجوهر والمظهر»، وفيها ما يشير صراحة إلى أنّ قصص الكاتب لا تخلو إطلاقًا من كلّ ما أراد التنصل منه.
اليوم وقد انتهيت من قراءة المجموعة القصصيّة «العازف» للكاتبة المبدعة غادة صلاح الدين، الصادرة عن دار أفاتار في العام 2020م، استعدتُ تلقائيًّا كلّ ذلك الحوار، متوقِّفًا أمام فكرة لطالما رفضتُها، تتلخّص في أنّ المراد الحقيقيّ من الكتابة هو الإمتاع، فإن تحقّق ذلك لا تسأل عن أيّ أمر من الأمور الأخرى التي قد ينشغل بها من يبحثون عن مثالب النصوص أكثر من وقوفهم على جماليّاتها؛ ذلك أنّني وجدت نفسي أغوص في ثنايا نصوص هذه المجموعة بعيدًا عن كلّ الشروط التي أناضل من أجلها، ولم أهتم إلا بالمتعة، فلم تفارق الابتسامة شفتيّ حتّى انتهيت منها.
ذلك لا يعني بالطبع افتقار هذه المجموعة لتلكم المعايير أو الشروط، بل كانت ضمن الأشياء التي أعطت قيمة لهذه النصوص؛ ولكنّني لم أحفل بكلّ ذلك في ظلّ انغماسي في واقعيّة وتلقائيّة الحكايات، وقُربها من نفسي، وهو ما جعلها أيقونةً للصدق في نقل إيقاع الشارع وإيصاله إلى المتلقّي بصورة مبسطة لا تكلُّف فيها. تذكّرت وأنا ألتهم الصفحات التهامًا، الحالةَ الوجدانيّة التي كنت أعيشها سابقًا خلال قراءتي الروايات والقصص القصيرة، عندما كنت أذهب إلى حيث يريد الكاتب، وأعيش القصّة كبطل من أبطالها دون التفكير في تقنيّة الكتابة نفسها وسرّ جمالها، ودون الانشغال بأيِّ أمر خارجَ هذا الإطار الجميل الذي يمكن اعتباره - في ظنّي - مقياسًا حقيقيًّا للإبداع؛ فالكاتب المبدع هو مَن يستطيع بحِرَفيّة عالية نقلك إلى قلب الحدث، وإشغالك بتنامي الأحداث وديمومة تأثيرها، بعيدًا عن أيِّ أمر آخر، لتجدَ نفسك في نهاية الأمر بالكاد تنتبه إلى أهداف الكاتب من كتاباته تلك، وربّما تحتاج لمعاودة القراءة حتّى تدركَ العمق الحقيقي للنصوص، والتقنيّات الإبداعيّة التي استخدمها في سرده.
هذه المجموعة اشتملت على سبع عشرة قصة متفاوتة الطول، بدأت بـ «العازف» وانتهت بـ «المنتصف المميت»، بواقع مئةٍ واثنتي عشرة صفحة، جمع بينها - كما أسلفت - التلقائيّة والصدق، وتشابهها الكبير مع واقعنا المعاش. وحتّى لا تُظلَم قصص هذه المجموعة ويُظَنّ أنّها سطحيّة، أورد على سبيل المثال بعض المغازي والرسائل الخفيّة التي حملتها، كقصّة عازف آلة الساكسفون الذي كان يقف على ناصية الشارع في فترة الحَجْر المنزليّ، في بدايات جائحة «كورونا»، ويشرع في عزف بعض الألحان الجميلة، بينما سكّان البنايات المجاورة يُطلّون عليه من الشرفات مردّدين بعض الأغاني معه؛ في ذلك ما يشير إلى أنّنا بحاجة في كثير من الأحيان إلى الهروب من المصاعب، بتسطيحها والتقليل من شأنها، وربّما تجاهلها، باندفاعنا خلف أيّ أمر يُبعدنا عن التفكير فيها، وكيف أنّنا، إن لم نفعل، لن نجنيَ سوى مزيدٍ من الهموم دون قدرتنا على تغيير هذا الواقع؛ وهو الأمر الذي نحتاجه بالفعل للهروب من مشكلاتنا طالما لم يكن حلُّها بأيدينا، في وقت قد يفهم بعض قرّاء هذه السرديّة المختزَلة، أنّ الجائحة ليست سوى ملهاة للشعوب ومؤامرة كبرى، كذلك في «طيف رجل» التي زاوجت بين خيانة الرجل وخيانة المرأة، وكيف أنّ خيانة كلٍّ منهما غالبًا ما ترتبط بالأخرى؛ وقد استطاعت الكاتبة التعبير عن فلسفتها تلك بالنهاية المخاتلة الجميلة التي ذيّلت قصّتها.
وهكذا تمضي بنا الكاتبة في كلّ قصّة من قصص مجموعتها الإبداعيّة، فنتوقّف مع «خلّ التفاح»، هذه القصّة الواقعيّة الجميلة التي تُظهر لنا أنّنا قد نتّخذ أحيانًا قرارات بالاستجابة لمن حولنا، لنكتشفَ لاحقًا أنّنا أكثر المتضرّرين عندما يتخلّى عنّا هؤلاء المستشارون، متناسين أنّهم سبب البلاء.
على أيّة حال، هذه المجموعة تمتاز ببساطة عباراتها وعدم تكلّفها، واستخدامها اللغة البيضاء الجميلة التي يستوعبها الجميع، فسيمياؤها غير متكلّفة، يكاد يدرك مغازيها كلّ قارئ بعيدًا عن تنطُّع بعضهم، ما يجعلها مثالًا يُحتذى من حيث الواقعيّة والبساطة، التي تشكّلُ قيمةً فنّيّة كونها من الفنون الكتابيّة التي لا يجيدها إلا الصادقون ممّن تركوا لأقلامهم تدوين ما تشاء دون تدخُّل مقصود منهم، تماماً كما قال «فرناندو سورنتينو»، وكما جسّدته لنا ابنة صلاح الدين في غادتها «العازف».
** **
- حامد أحمد الشريف