بمجرد أن همت زينب أن تضع قدميها في السيارة في طريق العودة للبيت بعد لقاء مع الأهل والأقارب بدأت كريماتها الحسناوات بالاستديو التحليلي للجلسة معتمدات في الحكم على «سوء الظن» والتشكيك في النوايا والحركات والسكنات ففتحن بذلك باباً من أبواب الشيطان ألا وهو «سوء الظن». تهم بلا أدلة وخناجر تلقى هنا وهناك وسم يعكر صفو الصدور وبياض السريرة. نزلت زينب متثاقلة الخطى بداخلها غصة طعنها بها أحب الناس إليها شجن حزن أضرم ناراً في قلبها يشغل بالها صدى حديث حرك هواجس وصور ومواقف تلطخت بالسواد. أقفرت فيافي روحها وتبدد أنسها إلى هم ووحشة فهجر النوم عينيها. ندبت حظها في الآخرين وخيبات أملها فيهم وشعرت بالاضطهاد والضعف فتطاول ليلها وكأنها تردد:
في الليل طول تناهى العرض والطول
كأنما ليله بالصبح موصول
قتل متعتها وسعادتها من لا يعلم أن في حديثه عن أخواتها بما ملأ مسامعها من ظنون سيئة وتفسير خاطئ للمواقف والأقوال وتدخل بأدق التفاصيل متناسيات أن أمهن عاشت مع أخواتها سنوات أطول بكثير مما عاشت معهن تقاسمن فراشاً واحداً وتبادلن اللباس وتشاركن اللقمة جمعهن حب وتآلف ودم. فحسناوات زينب قد يكن زوجة أو أختاً أو صديقة أو جارة, وكل ذي قلب مريض يعتقد أنه يفهم خبايا النفوس وينتقد براءة الآخرين ويتهمهم بالغباء فهو المحلل الحذق فهو لا ينظر للموقف بعينه وعقله ولكن حسب ظنونه المريضة فسرائر البشر لا يعلمها إلا الله فهذه الابنة التي أوغرت صدر أمها وأبكت عينها كيف تقابل ربها وقد بترت جذور علاقة أخوية بافتراءات وتفسيرات ودخول بالنوايا التي لا يعلمها إلا الله؟
لم تعد لقاءات زينب بأخواتها كسابقها بها من الانسجام والسعادة والحب الشيء الكثير؛ لأنها سمحت وسمعت للوسواس الخناس أن يبث سمومه في مسامعها ليخترق عاطفتها ولم تتخذ موقفاً وردة فعل ملجمة لمن يحاول تشويه صورة أحبتها. لاح بأفق سعاد شبح الشعور بالوحدة وفقدان الثقة وخيبة آمال صنعها سوء ظن خاطئ فأصبح التواصل رسمياً والحواجز زرعت بالألغام من غير وعي لاحتياج زينب لأخواتها وأقاربها وخاصة في هذا الوقت عندما كبر الأبناء وأصبح لهم عالمهم واستقلالهم
فتسميم منابع الحب والتخبيب المبطن أحدث شرخاً يهدد علاقتنا بذوي القربى ويربي الضغينة ويخترق لقاءات الأقارب ليعكر جمعهم لذا حذرنا ديننا الإسلامي من سوء الظن لما يسبب من فجوة وجفوة بين القلوب فالقرآن الكريم يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} ورسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه يقول «إياكم والظن»، ويقول عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم «لا تنقلوا لي شيئاً عن أصحابي فإنني أحب أن أخرج إليهم وأنا سليم الصدر». قال أحدهم لرجل: فلان شتمك فقال: «هو رماني بسهم ولم يصبني وأنت حملت السهم وغرسته في قلبي». فالمشاعر أضحت بين منطوق لم يقصد ومقصود لم ينطق وردود أفعال متسرعة وهجمات مرتدة وتركيز على التفاصيل الصغيرة قبل الكبيرة فكم من ابتسامة وئدت وكم من راحة نزعت نتيجة لشعور الشخص بأنه المنبوذ والمقصود بكل كلمة تقال وكل شاردة تمر فالاجتماعات خيم عليها الشك والكراهية والحقد والتباعد والتنافر والحساسية لكل كلمة وسلوك فالابتسامة مصلحة والسؤال عن الأحوال تطفل وتجسس والنصح تدخل بالخصوصيات والمزح لمز مبطن فالشكوك السيئة باطلة تنكد على الذات قبل أن يصل أثرها للآخرين فلدغات اللقاءات مميتة للبهجة ومغتالة للأنس فالكل يرى نفسه المحق وهو المظلوم وغيره الظالم ففسدت علاقات وهدمت بيوت وتشتت جمع وتقطعت أرحام وانقلب الود إلى عتاب ولوم وتفشى التباعد والتنافر بين العوائل والأقارب فأصبحت الأواصر على صفيح ساخن يهدد مجتمعاً بأسره. فالتماس العذر للآخرين وتكبير الدماغ عن هفواتهم وتقصيرهم ووضع أنفسنا مكانهم ومراجعة النفس مطلب فالحياة لا تستحق أن نرهق أنفسنا بالاستنتاجات والأوهام والظنون وأن يظن بك الناس ما لا يخطر على بالك ظلم وإيذاء نفسي يفسد صفو أنسك فمثلما أن لنا حقوقاً فعلينا واجبات فالتسامح تصالح مع الذات وسمو وانشراح للصدر فلا تكن أنت من يملأ القلوب بالكراهية ويقطع حبال المودة ويجتث صلات القربى ويزعزع الاجتماعات بالإفساد بين الناس اخلع منظار الريب والشك عنك وتمتع بجمال الاجتماع وأكرم الجميع بحسن الظن تعامل بحسب ما يظهر لك فالسرائر يتولاها خالقها أقبل على الآخرين بصدر بريء من الهواجس وتصيد الزلات اجعل شعارك «التمس لأخيك سبعين عذراً».