حسن اليمني
لا يهتم كثير ممن يتابع الأحداث السياسية إلا بما تتناقله وسائل الإعلام، في حين أن وسائل الإعلام لا تنقل إلا رسائل سياسية في الغالب أو أخبار ظاهرة على السطح نقلاً عن وكالات أنباء، لذلك يبقى المتابع القارئ أو المشاهد أو المستمع تحت سيطرة وهيمنة التوجيه دون أن يدرك حقيقة ما يحدث.
من بين أعمال جهاز المخابرات في أي دولة استخدام الإعلام للعمل السياسي غير المباشر أو الرسمي لتحقيق غايات وأهداف في كثير من الأحيان، وأحيان أخرى كرسائل استخباراتية للأجهزة المخابراتية في الدول بشكل غير مباشر للتملص من الإثبات والتأكيد، وفي الغالب يتم من خلال كتَّاب أعمدة في صحف معينة أو تقارير أو دراسات مراكز بحث إستراتيجي، والغرض بحث رد الفعل أو الاستقصاء عن معلومات يمكن أن تظهر من خلال تناقل الخبر والتعليق والتحليل عليه من الأطراف الأخرى، وأحيانًا يتم استنطاق مسؤولين هنا أو هناك من قبل سؤال صحافي للوصول إلى أقرب نقطة لقياس مدى أهمية الخبر وأثره ومستوى جودة الاهتمام أو عكسه لدى هذه الجهة أو تلك.
هناك أسماء لصحفيين أو مراسلين أو إعلاميين بشكل عام معروفة على مستوى العالم يهتم الكثيرون بمتابعة مقالاتهم وتقاريرهم بحكم قربهم من أجهزة الاستخبارات أو الحكومات ما يمنحهم سعة في الاطلاع ومعرفة كثير من الأسرار المجاز استخدامها، وفي كثير من الأحيان تصلهم تسريبات من أجهزة الاستخبارات ليصيغوها في قالب أخباري أو تحليلي يمكن بناء توجه سياسي تكتيكي أو إستراتيجي على درجة ومستوى رد الفعل تجاهه من قبل الآخرين في الجهات الأخرى المعنية أو المستهدفة.
هذه الصناعة موجودة حتى في بعض الدول العربية لكنها موجهة للداخل في هذه الدول للتوجيه والتأثير على الرأي العام الداخلي لتقوية وتدعيم سيطرة النظام وحمايته وحماية سياساته وتجاهاته الخارجية التي قد تتعارض أو تناقض مع الوعي أو الاعتقاد العام، وفي العمل الخارجي يكتفى بمصدر مسئول دون تسميته بدلاً من استخدام المقال أو التحليل الصحفي أو الإعلامي بشكل عام، وإن كان يتم تسريب بعض الرسائل عبر الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي لكنها تفتقر إلى الجودة لأنها حين تظهر لا تحمل في الغالب اسمًا له عنوان مهني يفيد بسعة وعمق اطلاعه أو علاقة قريبة من المطبخ السياسي معتبره، كما أنها في الغالب مستهلكة في الداخل ما يضعفها في الخارج.
بين التوجيه والتأثير الداخلي والخارجي لا شك هناك علاقة ارتباط لكن فصلهما مهم، الفصل والتخصيص كجهتين مستقلتين كحال الفصل بين وزارة الداخلية ووزارة الخارجية في الدول تعطي للجهة قوة أبعد وتركيز أجود. الداخلي يرتبط بالأمن الداخلي اجتماعي وإخلاقي، وهذا يملك سعة كبيرة في الوسائل كالبرامج التلفازية والمسابقات والمسلسلات والرياضة والفن. بينما الأمن الخارجي تحري وتقصي وصناعة أفعال سياسية وخطوات إستراتيجية مرغوبة من خلال تسريب معلومة تبنى عليها قصة لتحقيق نتائج مستهدفه كقوة ناعمة تضاف إلى قوى الدولة الأخرى المؤثرة، عمادها صناعة مشروع الفعل الذي يعطي ويحقق نتائجه برد الفعل المعد والمهيأ له مسبقاً بناء على ارتداد أثر ذلك الفعل غير المباشر وغير الرسمي في الجهة المقابلة كنوع من أنواع السياسة الخارجية أو القوة الناعمة التي لا تحدث صوتًا. يردد الكثير من المواطنين العرب في أن العرب أصحاب رد فعل لا فعل، ويبدو أن ذلك فيه كثير من الصحّة، الفاعلون هم أصحاب القوة، والقوة لا تعني المال ولا التاريخ ولا السلاح ولكنها تعني القدرة على الفعل وصناعة رد الفعل المراد والمطلوب، وهذه القدرة لا يمكن أن تكون إلا حرّة غير معاقة بأحمال أو أثقال من القضايا المصيرية التي على ضوئها يتحدد مصير أمن واستقرار هذه الدولة أو تلك، هناك قضايا تمس داخلك وحدودك السيادية وهناك قضايا تمس مصالحك الخارجية وطموحاتك الكمالية - أن جاز التعبير - وبالتالي فالفرق واضح وكبير بين الدول العربية التي تعج بالقضايا المصيرية وتلك القوى العظمى التي ترسم مصالحها وتبني طموحاتها على مساحة الكرة الأرضية وحتى الفضاء، وعلى هذا الأساس يمكن تفهم بون المسافة في القدرة بيننا كعرب وبين دول عظمى، إلا أن هذا التفهم لا ينبسط على اطراده، فبدلاً من تركيز كل قطر عربي جلّ اهتمامه وعمله على تنمية ما هو داخل حدود سيادته نجد أن الآخرين يعبثون في مصير منطقتنا العربية بتنافس محموم دون أن يكون لنا كعرب قدرة في المشاركة بهذا الرسم وهندسة هذا التنافس والصراع بما يساعدنا في استعادة القدرة على حماية أمننا القومي العربي.
برغم تدخل بعض الدول العربية في ما يجري في ليبيا إلا أن مصير ليبيا بيد قوى أخرى، وبرغم محاولات توثيق العلاقات العربية مع العراق إلا أن إيران تبسط حكمها وتعتبره جزءًا منها، وبرغم ما يقدم من دعم واسناد إلى لبنان إلا أن لبنان محكوم بقوة تابعة لإيران من جهة وساسة تابعين للاستعمار الفرنسي من جهة أخرى، وبرغم مضي سبع سنوات على ثورة الشعب السوري على حكم عائلة الأسد إلا أن مصيره بين روسيا وإيران وأمريكا وتركيا والكيان الصهيوني، وبرغم ما قُدِّم من دول الخليج العربي لليمن إلا أنه اختار الانضواء تحت العباءة الخمينية من قبل فئة صغيرة لا تشكل شيئًا يُذكر أمام السواد الأعظم من شعبة، أما فلسطين... فقد أُرشفت في خزائن التاريخ. أصبح من الضروري تنشيط وتوحيد الجهد العربي وتفعيل العمل الاستخباري الخارجي باستخدام القوى الناعمة للتأثير والتوجيه في إعادة رسم المنطقة بدلاً من التركيز على التوجيه الداخلي الذي أصبح يتنافس مع الغباء في ضحالة مضامين طرحه.
أعتقد أننا في حاجة لصناعة إعلام سياسي يهتم بالشأن الدولي وتتبع الأحداث والتسريبات وزوايا الرأي في الإعلام الأجنبي ودراسات مراكز الأبحاث الإستراتيجية بشكل مستقل لا يرتبط بالعمل الحكومي أو يتبع جهة رسمية لتتحقق له الحرية الكاملة في تحوير وتحرير الخبر والمعلومة وتجيّر مسئولية ما يطرح لجودة أو رداءة عملها دون أدنى مسئولية على النظام السياسي التابعة له، وفي عالمنا العربي بحر من العقول وعمالقة في العلوم السياسية والإستراتيجية القادرون متى هيئت لهم الفرص في أن يحققوا المكانة اللائقة المؤثرة والقادرة على صناعة الموقف والفعل السياسي واستدراج رد الفعل الذي يخدم الغايات والأهداف، مثل هذه القوة الناعمة يحتاج إليها الوطن العربي اليوم أكثر من السلاح وعتاده المستورد، بل هو أمضى وأسبق في تمهيد وحرث المسارات الجانبية للسياسات التي تلزم لبناء المواقف في كثير من القضايا والأحداث التي تطرح أو تساق بها الأمور، تعطي مزيدًا من الخيارات وتفتح مزيدًا من الفرص وتعين وتدعم السياسة العربية بشكل عام، بمعنى خط دفاع وهجوم فكري وثقافي وإعلامي يخدم الأمن القومي العربي بشكل سياسي.