د. تنيضب الفايدي
اشتهرت المدينة النبوية بأنواع من المنازل والبيوت، منها الآطام والحصون والصياصي والبروج، وقد خلّد القرآن الكريم بعضاً منها، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. وقال تعالى: {وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} وقال تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}.
أما الآطام فهو جمع أطم وهو البناء المرتفع، وهو أحد أنواع الحصون التي استخدمها العرب قديماً، وعادة يكون على شكل دائري (أسطواني) ودون نوافذ تفتح إلى الخارج، وكانت الآطام منتشرة في المدينة المنورة، وقد أقرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد هجرته ونهى عن هدمها أو إزالتها وتدل على ذلك الآثار وبقايا تلك الآطام والحصون ولازالت هذه الآثار قائمة إلى يومنا في حرار المدينة وضواحيها مع وجود الآبار في تلك الآطام والحصون، وإن بدأت تختفي معالمها حالياً. وقد ترك أصحاب هذه المنازل من اليهود والأوس آثاراً في الحرة تدل على حضارة ونظام، تركوا بها آثار مصانع وصهاريج مياه لم يبق منها اليوم إلا أطلال دوارس، وكان هناك عمال لنحت الحجارة وضرب الطوب وكل ما يستلزمه البناء. وتعددت الآطام بالمدينة المنورة قبيل هجرة النبي وكانت تلك الآطام عز أهل المدينة، ومنعتهم التي كانوا يتحصنون فيها من عدوهم وكانت تلك الآطام تسمى بأصحابها أو باسم القبيلة وتذكر بالأشعار، وبعضها اكتسب شهرة وسميت به أجزاء من المدينة المنورة حيث إن اللابة (الحرة) الشرقية تسمى حرة وأقم نسبة إلى أطم يسمى بهذا الاسم، والآطام زينة وعبرة ونهى رسول الله عن هدمها كما ورد ذلك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هدم آطام المدينة لأنـها زينة لها.. وبلغ عددها عند الهجرة النبوية أكثر من (سبعين أطماً) عدا الحصون، كما أمر ببناء آطام جديدة حيث بنى الأنصار والمهاجرون أُطُماً جديدة وبلغ مجموع تلك الآطام مع ما سبقها مائة وثمانية وعشرين أطماً، كما ذكرت بعض المصادر الأخرى أكثر من (مائة) أطم ويحوي كل حصن أو أطم مخازن للطعام والسلاح إضافة إلى بئر الماء، وقد أصبحت عادة أن يكون في كل دار بئر وذلك في المدينة المنورة إلى وقت قريب، والآطام بيوت دائرية تتكون من الحجارة والصخور.
أما الحصون فهي بيوت مربعة تتكون من الصخور الفخمة تفتح غرفها ونوافذها إلى الداخل، حيث توجد ساحة داخلية تطل عليها النوافذ، وقد تتعدد الحصون ولعل أهم وظيفة للآطام والحصون هي: الحماية والدفاع عن النفس ولاسيما أن بعضها تحيط مع أبراج حماية عالية ضمن البناء، كما أنها مزودة بما يحتاج من سلاح وزاد وماء. ومن وظائفها أيضاً حماية المزارع والأراضي الزراعية الموجودة حول تلك الآطام والحصون، كما أنها كالمستودع للغلال والثمار، فهم يجمعون الغلال والثمار في هذه الآطام والحصون نظراً لعدم اعتداء العدو عليها. وأنها مكان مناسب لحفظ الكنوز والأموال، كما أنها تستخدم كمخازن للأسلحة، وأحياناً تستخدم للإعلان والتبليغ، كما أنها كانت مقراً للتشاور والاجتماعات، وقد أتقن البناؤون والصناع الذين كانوا في (يثرب) بناء الدور والآطام والحصون بالصخور ولاسيما الصخور البازلتية (السوداء) بدليل أنها قاومت عوامل التعرية من الرياح والأمطار وبقيت مئات السنين حتى بقيت آثارها إلى وقت قريب بل لازالت بعض آثارها قائمة حتى تاريخنا هذا بدليل وجود بقايا حصن كعب بن الأشرف، وهذه المنازل والآطام تدل على حضارة وتقدم، يدل على ذلك بعض الآثار، كما كانت هناك صخور منحوتة وبعض أدوات البناء متناثرة على حافتي الحرتين واشتهر من الآطام: أطم أبي دجانة في منازل بني ساعدة كانت بقاياه حتى عام (1392هـ) بالقرب من بئر بضاعة قريباً من سقيفة بني ساعدة وهناك عشرات الآطام والحصون رصد تاريخها، وزالت معالمها، واشتهر بعضها باسم صاحبه وكان لكل قبيلة مجموعة من الآطام أو الصياصي والحصون، ويعطي قصر كعب بن الأشرف الذي يقع ظاهر المدينة وبالقرب منه شعب يطلق عليه (شعب العجورة) وهو أحد روافد وادي بطحان الذي يخترق المدينة المنورة مثالاً واقعياً عن تلك الحقبة. ويعطي هذا الحصن الهائل ذو الحجارة الضخمة والأبراج العظيمة صورة ناطقة عن كيفية بناء الحصون والآطام قبيل انتشار الإسلام ومع بدايته وهذا الحصن مربع الشكل (33م × 33م) وتبلغ بعض جدرانه أكثر من أربعة أمتار ولكن بدأت صخورها تتساقط ويتكون المبنى من عدد من الغرف، وتختلف مساحاتها من غرفة إلى الأخرى بعضها مربع الشكل أو مستطيل وتتراوح مساحاتها ما بين (5.5م × 4م) أو (2.5م × 3.5م) وتفتح أبوابها على فناء واسع داخلي، وقد عمر الحصن صخور فخمة يبلغ طولها 1.5م وعرضها 80 سم وسمكها 0.50م.
أما الصياصي فأصْلُها أنَّها جَمْعُ صِيصَيَةٍ، وهي القَرْنُ لِلثوْرِ ونَحْوِهِ، فَلَمّا كانَ القَرْنُ يُدافِعُ بِهِ الثوْرُ عَنْ نَفْسِهِ سُمِّيَ المَعْقِلُ الَّذِي يَعْتَصِمُ بِهِ الجَيْشُ صِيصَيَةً، والعرب تقول لطرف الجبل: صيصة، ويقال لأصل الشيء: صيصة، يقال: جزّ الله صيصة فلان، أي: أصله، ويقال لشوك الحاكة: صياصي، كما قال الشاعر:
كَوَقْعِ الصّياصي في النّسيجِ المُمَدَّدِ
والمراد بها في الآية الحصون كما ذكرها المفسرون، لكن الصياصي مجموعة من المعاقل والحصون. وهناك القصور العالية متعددة الأدوار ويطلق عليها البروج. قال تعالى وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ سورة النساء آية (87). أي قصور عالية متعددة الأدوار.
الآطام والحصون والصياصي والأبراج والمنازل والبيوت تشكل مع غيرها ما يطلق عليه العمران، وأكثر ما اشتهرت به (يثرب) عند هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم الآطام والحصون والصياصي.