سلمان بن محمد العُمري
قبل عشرة أعوام نالت الباحثة: عائشة بنت محمد بن سلمان النجار درجة الماجستير بعد أن تقدمت ببحث لنيل هذه الدرجة في التربية الإسلامية من جامعة مكة المكرمة المفتوحة، وكان عنوان البحث الجميل «الحُبَّ في التربية النبوية»، وقد حازت به درجة الامتياز، وبعد ثلاثة أعوام تم طباعة هذا الكتاب الطبعة الأولى، ولا أعلم إن كان هناك طبعات أخرى للبحث.
ولا أخفيكم أنني استمتعت بقراءة هذا البحث الجميل في عنوانه والمتميز في طرحه، وأتمنى أن يتم تناول مثل هذا الموضوع «الحب» الذي غفلنا عنه كثيرًا بسبب الحياء غير المقنع مما حدا بشبابنا وشاباتنا في وقت مضى لأن يبحثوا عن ثقافة الحب لدى الغرب، ولدى أوساط عفنة تقدم الحب المزيف أو الحب المحرّم. و»الحب» هذه الكلمة الصغيرة في مبناها، الكبيرة في معناها والذي يمنح المحب طاقة إيجابية عجيبة، يتحمل فيها ويتجمل ليصل إلى ما يحب، فهو شيء عظيم تحل به أكبر المشاكل، وتشفى الأسقام والعلل، ويعلى البناء ويُحققُ النماء والعطاء إن استقيناه من منبعه الفطري الصحيح.
لقد جسدت سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم العطرة - قولاً وعملاً - منهاجاً لنا للحب في حياته كلها مع الله سبحانه وتعالى، وفي طاعته وعبادته له، وفي حبه لرسالته وتفانيه لأجلها ونشرها بالحب والرحمة لا بالقسوة والجبروت، وفي علاقته مع أهله في بيته ومع عشيرته والمسلمين وغيرهم ورحمته وإشفاقه عليهم، وعلى البهائم بل وحتى الجمادات.
لقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم حياة ملؤها الحب والرفق والرحمة ممن حوله، ولم يغب عنه الحب في أحلك المواقف شدة وحزماً، وحتى في أوقات اللقاء مع العدو، وكان شعاره الدائم أن الرفق ما وُضع في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه، وقوله عليه الصلاة والسلام «أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك» لأن الحب بلسم الحياة، وباب دخول الجنة، وقد جاء في الحديث النبوي الشريف: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم».لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم الزوج المحب الحنون، والوالد الشفيق، والصاحب المخلص الوفي، والقائد الرؤوف الرحيم لأمته إلى يوم الدين.
وحينما غفل الباحثون عن تناول هذا الموضوع ساءت مفاهيم الحب لدى كثير من الناس وهو ما نراه اليوم في أوجه كثيرة، فقد افتقدنا الحب الصحيح مع أهلنا وأصدقائنا ومجتمعنا وجعل بعضهم الحب رمزاً للميوعة والاستخفاف والابتذال والاستمتاع بالملذات العابرة، وتحول من الفطرة الطاهرة إلى المادية وغير السوية.
إننا بحاجة ماسة إلى دراسات جادة في هذا الموضوع المهم وقراءة السيرة المحمدية والسنة النبوية والتمعن فيها برؤية وروية، رؤية مبصرة تحدد ما تحتاجه الإنسانية ليس في مجال الأحكام والعبادات بل وحتى المشاعر الإنسانية النبيلة، فالحب روح الدين وأصل العلاقات العطرة السليمة، فبالحب نحيا ونسعد، وبالحب نتواصل ونصلح، وبالحب نوصل رسالتنا السامية للعالم، فهذا هو منهجه صلى الله عليه وسلم، فالحب ضرورة نفسية يحتاجه الإنسان في جميع مراحل عمره المختلفة، فهو كالماء والهواء وهي مشاعر يعززها السلوك. والإسلام يدعم الحب، ويأمر به ويعتبره من القربات إلى الله عز وجل، وهو إرث نبوي حيث كان سلوكًا راسخًا في حياته ومتأصلاً في فطرته، وقد مارس صلى الله عليه وسلم في حياته جميع أنواع الحب: الخلوة مع الله، والحب العاطفي مع أزواجه بلا إفراط ولا تفريط، وتميز بثرائه المتنوع فصار قدوة عملية لمن حوله فأثمر حبًا متميزًا من الجنسين لم يلد التاريخ مثله، وأوجدت مجتمعاً حضارياً.
شكرًا للباحثة على بحثها المتميز الذي لا نفيه حقه، ولا نفي موضوع مقالنا حقه من الإيفاد، وأؤكد أن الحب أعظم قوة دافعة وعاطفة ومحركة للسلوك الإنساني، وهو طاقة باعثة فعالة لو تم توظيفها في الجوانب الإيجابية لولدت طاقات هائلة، ويجب أن يهتم الباحثون في مجالات السيرة والاجتماع وعلم النفس بهذا الأمر حتى لا تنتقل العقائد الخاطئة بالحب وتترسخ في عقول الأبناء.