د.فوزية أبو خالد
أفردتُ الأسبوع الماضي مقالاً مستقلاً تحدثتُ فيه عن المؤتمر الثقافي الذي أقامه مركز الملك سلمان العالمي للغة العربية على المنصة الدولية لمقر الأمم المتحدة بنيويورك بحضور وفود دولية وممثلين عن أقسام اللغة العربية بالجامعات الأمريكية بهدف توسيع دائرة الدور المعتاد للمجمعات اللغوية العربية لبناء جسر حضاري بينه وبين المجتمع الدولي يحول يوم اللغة العربية من يوم احتفائي إلى يوم تثقيفي عن اللغة العربية آداباً وعلوماً ومجتمعات يتجدد طوال العام في تعاون ثقافي ولغوي وعدلي مستدام.
أما في هذا المقال ومقال الأسبوع القادم فأطرح به صورة عن مساهمتي في هذا اللقاء اللغوي العدلي حيث شكلت ورقتي طيفاً آخر من أطيف اللغة العربية المسكوت عنه عادة في الحديث عن اللغة العربية وهو طيف الجدل الإبداعي بين تجدد اللغة وحرية الكتابة.
الورقة
تتمثل مشاركتي في هذا اللقاء بتقديم تجربتي الشخصية في كتابة الشعر الحديث (قصيدة النثر) وفي الكتابة المقالية والبحثية كصورة من حالة ثقافية عامة بالمجتمع السعودي تعبر عن تحديات ونضالات اللغة العربية والناطقين بها والمنتجين لها نحو موقف جمالي وعدلي مستنير في العلاقة بالذات على المستوى الوطني وفي العلاقة بالآخر على المستوى العالمي.
أسئلة الورقة
تقوم الورقة بطرح سؤالين يشكلان مفتاحاً لبحث السائد والمشتهى في موقع اللغة العربية كتجسيد للمنتج الثقافي وكجسر لعلاقات ثقافية متكافئة فيما بين المجتمع الدولي.
السؤال الأول: ما هي علاقتنا «في هذا العالم الكزموبلتين» باللغة الأم أو ما في حكمها من اللغات في تأثيرها على معرفة الذات ومعرفة الآخر؟
والمقصود هنا علاقتنا بتلك اللغة التي شكلت وتشكل روافد لمنابعنا المعرفية الأولى بما يسميه تشاومسكي «النظام اللغوي التوليدي» التي نتمكن بها من اكتشاف أنفسنا واكتشاف المحيط العام كما نتمكن بها من تطوير قدرة التعبير عنهما بشكل يبني جسور التواصل الحر مع الذات والتواصل الندي مع الآخر.
السؤال الثاني: ما هي الشروط التي تمكن اللغة أي لغة وفي هذا السياق اللغة العربية تحديداً من خلق علاقة جدلية متكافئة في التأثير والتأثر الثقافي والحياتي بين أطياف المجتمع الواحد ومجتمعات العالم على الساحة الدولية؟
والواقع أن الغاية المأمولة من طرح السؤال هي أن نفكر معاً في القاسم المشترك الأعظم وفي الكم المتنوع الهائل أيضاً الذي قد نحصل عليه من إجابة هذا السؤال في تشكيل الأهمية الذاتية لكل منا والموضوعية لنا جميعاً تجاه اللغة كمعطى معرفي ووجودي في فضاء الداخل وفي الفضاء الخارجي.
اللغة العربية واجتراح الأسئلة
تحت هذا العنوان أعمل على مقاربة السؤالين السابقين أعلاه من خلال ربطهما باللغة العربية على وجه التحديد باعتبارها بطلة اللقاء وذلك من خلال البعدين التاليين:
البعد الأول، تمثله محاولة تقصي تجربتي الشخصية في العلاقة باللغة العربية باعتبارها لغتي الأم وما عشته فيها من مد وجزر بهدف التعبير بها عن أشواق الاكتشاف والتجديد والحرية نحو اكتشاف الذات الشخصية والاجتماعية ومركبهما الثقافي ونحو التواصل الثقافي مع الذات ومع الآخر.
والبعد الآخر يتمثل في الوقوف على التحدي المعرفي والوجودي الذي تواجهه اللغة العربية يومياً في الداخل والخارج لانتزاع الشرط العدلي ولتحقيق الشرط الجمالي لتعيش اللغة العربية حياة منتجة كريمة في حاضرها ومستقبلها يضاهي تاريخها اللغوي والإنساني القديم والقريب في عمقه الروحي وفي بعده الحضاري وفي تمثيله للهوية العربية.
تحديات اللغة العربية والتجديد الإبداعي/ تجربتي:
في ربط مقاربتي بالسؤال الأول أعترف أن علاقتي باللغة العربية باعتبارها لغتي الأم لم تقتصر على حيز التخاطب الشفوي والمقروء والمكتوب في التواصل مع الذات والأسرة والمحيط الاجتماعي بل ذهبتْ علاقتي باللغة العربية إلى فضاءات أبعد واتخذت أبعاداً متعددة مختلفة عن معتاد العلاقة الروتينية المدرسية التي تنشئها المدرسة والمجتمع بين الإنسان ولغته الأم والتي تحاصرنا عادة بالاستقامة النحوية على حساب حرية التفكير والتخيل بها. فاللغة العربية في تجربتي هي اللغة التي التقطتُ إيقاعها وجرس ضحكتها ونشيج بكائها وصوتياتها وصمتها ولم أكن بعد إلا جنيناً شفيفاً في رحم أمي فتسللت مكوناتها لدمي على شكل شفرات غامضة قبل أن يشق الضوء بصري. واللغة العربية هي اللغة التي نطقتُ بنظامها اللغوي الصارم البديع كلماتي العفوية الأولى وسجلتُ اسمي على دفاتر المدرسة لأول مرة بحروفها التشكيلية الساحرة.. وهي اللغة التي قرأتُ بها على يد والدي ووالدتي القرآن إعجاز اللغة العربية الخالد منذ نعومة أظافري. وباختصار مخل كانت اللغة العربية في تجربتي هي الجسد الذي أتنفس وآكل وأشرب وأتألم وآمل وأحلم وأتخيل وأفكر به كما كانت اللغة العربية هي المطل الذي أستشرفه لاكتشاف مجاهل العالم والتعرف على ثقافاته عبر خيانة الترجمة ذلك الاختراع اللغوي الخطير في سبيل التواصل مع الآخر. وفي وقت مبكر من مقتبل العمر خرجتْ علاقتي باللغة العربية من فجوة المعطى إلى فجاج المنشود ومن حدود الممكن لأفق المستحيل وقد جاءت تلك النقلة النوعية التعميقية لعلاقتي باللغة العربية بطاقاتها التحررية من خلال غواية الشعر عندما كتبتُ قصائد ديواني الأول «إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟» بشكل طائش مخالع للمعطيات اللغوية السائدة في موروث الشعر العروضي العربي بكتابة قصيدة النثر.. فصارت اللغة العربية ليست فقط الروح التي أعيش بها بل أيضا الأجنحة التي يمكن لبنت لا تحسن المشي أن تطير بها حاملة حياتها على كف وشعلة الشعر على الكف الأخرى.
فكان ديوان الاختطاف بمغامرته الإبداعية التي لم أكن لأجترحها لولا الطاقات الحيوية الكامنة والسافرة التي تمتلكها اللغة العربية هو جواز السفر الذي اجتزتُ به الحدود السياسية والجغرافية من بلدي إلى بلدي وإلى بلاد وقارات جديدة.
ولم تكن علاقتي باللغة العربية أقل تحدياً في كتابة المقال وكتابة البحث العلمي.
وهذا ما سأتحدث عنه في مقال الأسبوع القادم بمشيئة الله.