د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** شهد أجيالُ ما بعد التحرر من الاستعمار شجارًا مصطلحيًا أوجدته انتماءاتٌ سياسية وثقافية ومجتمعية؛ ففي البدء ذاع مصطلح «الرجعية» و»التقدمية»، وافتتن شبابُ تلك المرحلة بهذا التصنيف العابث؛ فانقسموا أو قسموا أنفسَهم بأنفسِهم بين رجعيين وتقدميين، ولسطوة المفردة فقد غلب التقدميون عددًا، ربما توجسًا من وسم التخلف، وكان للإعلام الناصريّ دورٌ في إعلاء شأن التقدميين، وتحجيم الرجعيين، وما يزال يذكر في طفولته أنْ لم يرقْ له وصفُ الرجعية لمن يحبهم، من غير أن يعيَ ما هو أبعدُ من المدلول اللفظي، واستقام عودُه الذهني فعرف وعزف.
** لم تكد تلك الحقبة تنتهي عقب وفاة الرئيس جمال عبدالناصر 1970-1918م حتى أرهصت مرحلة ما بعد حرب عام 1973م، وظهور الطفرة النفطية الأولى، وزيارة الرئيس أنور السادات 1981-1918م للقدس عن ظهور مصطلحات «العمالة والصمود والتصدي»؛ فكأنَّ غياب الرجعية والتقدمية لم يطلْ واستبدل بهما أمثالُهما، واعتنت فترة السبعينيات الميلادية بإعادة ترتيب الأحزاب والجماعات الإسلامية، وأهمها: «الإخوان والتحريريون والجهاديون السلفيون ونحوهم»، وتركزت أغلبُ نشاطاتهم في التعليم والإعلام والدعوة فبدأ مصطلح «الصحوة» في التداول، وقابله مصطلح «الحداثة»، والأرجح أن تقاربَ زمنيهما والتصادمَ بينهما لم يكن مقصودًا، لكنه امتدّ واشتد.
** لم يغب تخليقُ المصطلحات واختلاقُها؛ فتبعه تصنيفُ الرموز الثقافية إلى «تنويريين وظلاميين» و«ليبراليين ومحافظين» وهي مصطلحاتٌ لا تصمدُ أمام التحرير المنهجي؛ فلا تحديد للمراد منها، ولا إجماع على الاعتراف بها، ولا قيمة للتوصيف عبرها، ومن الجليّ أنها تشي بتحيزٍ لا تميز، وبالإمكان قلبُ مدلولاتها ليصبح مدّعو التنوير ظلاميين، والظلاميون تنويريين؛ فالتصنيفُ من غير أساس، وما الظنُّ أنها أكثرُ من حزبيةٍ جائرةٍ لا حساب لها في الوعي الجمعي.
** في أولى قراءاته بعمر السادسة عشرة طالعَ كتاب الدكتور منيف الرزاز 1984-1919م: «التجربة المرة» الذي أبرز فيه مساوئَ حزب البعث الذي انتمى إليه وصار أمينًا له في دمشق وبغداد، وفي الوقت نفسه تصفح كتاب «الصنم الذي هوى»، وهو بأقلام غربيين تنبؤوا بسقوط الشيوعية، وذاع كتاب «لعبة الأمم» لرجل الاستخبارات الأميركي «مايلز كوبلاند»، وفيه توظيفٌ سياسيٌ مؤدلجٌ مغلفٌ بإطارٍ ديني فأيقن أنها شعاراتٌ وقتية.
** لم يحافظ حزبٌ ولا تحزبٌ ديني، أو سياسيٌ، أو ثقافيٌ، أو مجتمعيٌ على وضعه كما في نظامه التأسيسي، وإنما هي عناوينُ تتبدلُ وتُوظفُ - بدرايةٍ وبغيرها - في زمانٍ ومكانٍ ولإنسانٍ فينشغل ويُشغل، والحرُّ لا يقبل القيد، والانتماء هو الفضاء.
** لم تتحرر المصطلحاتُ، ولم تتحقق الإصلاحاتُ، وطال التيهُ العربيُّ في انتظار وحدةٍ صارت شرذمة، وتحريرٍ أصبح عبودية، وتنويرٍ لم نرَ ضوءَه، وصحوةٍ غفت، وحداثةٍ تقادمت، وصمودٍ تصدى لأهله، وليبراليةٍ استعبَدت، ومحافظةٍ فرّطت، ودعاوى تطورٍ أودت إلى التأخر.
** التدثرُ إملاق.