د.محمد بن عبدالرحمن البشر
سبق أن كتبنا مقاطع عن التنوخي وقلنا إنه عاش في زمن كان فيه الأدب قد أرسى أطنابه، والشعر قد حط رحله وفتح أبوابه، ذلك العصر الذي كان يزخر بالكثير من الأدباء والشعراء، فهو عصر المتنبي، وأبي فراس الحمداني، والمعري، وأبي الفرج الأصفهاني، وابن خالويه، وابن مسكويه، وأبي حيان التوحيدي، والحاتمي، والصاحب ابن عباد، وابن العميد، وكذلك الصولي، وغيرهم كثير، والحقيقة إن البيئة الأدبية كانت مثالية في بروز أولئك الشعراء والأدباء، لأن مساحتها كانت واسعة ومفتوحة، للمشاركة فيما لديهم من أفكار وعلوم رغم أن الأوضاع السياسية لم تكن على ما يرام، وإن كانت قد استقرت في بعض الفترات في بعض المناطق.
واليوم نكتب شيئاً عن شعر التنوخيوما نقله لنا من بعض القصص في كتابه المشهور، الفرج بعد الشدة، ومن ذلك ما نقله لنا ابن خالكان في وفيات الأعيان عند حديثه عن القاضي التنوخي وترجمته له في كتابه المشهور، وقد ذكر له أبياتاً شعرية في الغزل منها:
قل للمليحة في الخمار المذهب
أفسدت نسك أخي التقى المترهب
نور الخمار ونور خدك تحته
عجباً لوجهك كيف لم يتلهب
وجمعت بين المذهبين فلم يكن
للحسن عن مذهبها من مذهب
فإذا أتت عين لتسرق نظرة
قال الشعاع لها اذهبي لا تذهبي
هذا قاض من قضاة ذلك الزمان كان يجالس الملك باختيار البويهي، الملك الذي يقع تحت مظلة الخليفة العباسي، حيث لم يكن للخليفة العباسي أمر ولا نهي، كما أن القاضي التنوخي، أيضاً، يقول الشعر المليح، والغزل البريء، غير الفاحش، وهذا أمر مألوف، وليس مستغرباً من القضاة في ذلك الزمان، وكل الأزمنة.
ونقل لنا ابن خلكان، أيضاً، قصة مليحة عن القاضي التنوخي، وذلك أن أحد المشايخ قد خرج يستسقي المطر، وكان في السماء سحاب متراكم يكاد أن يمطر، فلما دعا ذلك الشيخ في صلاة الاستسقاء، انقشع السحاب، وأصبحت السماء صحواً، فقال القاضي أبو علي التنوخي:
خرجنا لنستسقي بيُمنِ دُعائه
وقد كادَ هُدب الغيم أن يبلغَ الأرضا
فلمّا ابتدا يدعو تَقَشَّعَتِ السَما
فما تمَّ إِلّا والغمامُ قد انقضّا
هذان البيتان فيهما ملاحة، وخفة الدم، وأيضاً فيهما، همز وغمز، على ذلك الشيخ الذي ما كاد يبدأ الصلاة حتى تبدد الغيم.
وفي قصة أخرى، لما خرج طاهر بن الحسين إلى محاربة علي بن عيسى بن ماهان جعل ذات يوم في كمّه دراهم يفرقها على الفقراء، ثم أسبل كمّه ناسياً، فانقضت الدراهم، فتطير من ذلك واغتم، فانتصب له شاعر، فقال:
هذا تفرق جمعهم لا غيره
وذهابه منه ذهاب الهم
شيء يكون الهم نصف حروفه
لا خير في إمساكه في الكم
فذهب همه، وما به، وأمر له بثلاثين ألف درهم.
قال أبو عبد الله ابن أبي عوف: دخلت على أبي العباس بن ثوابه، وكان محبوساً وقال لي احفظ عني، فقلت نعم، فقال شعراً:
عواقب مكروه الأمور خيار
وأيام شر لا تدوم قصار
وليس بباق بؤسها ونعيمها
إذا كر ليل ثم كر نهار
ولم تمض أيام يسيرة حتى أطلق من محبسه، هنا ما رواه لنا التنوخي نقلاً عن الأنباري، والأنباري صديق مقرب من القاضي التنوخي.
ونقل لنا القاضي التنوخي أن هناك تاجراً من تجار المدينة كان يختلف إلى جعفر بن محمد وكان له خليط يجالسه في مجلسه ويعرفه حق المعرفة، لكنها الدنيا لا تدوم على حال، دائماً وأبداً، وتغيرت حال ذلك المدني لسبب أو لآخر، فذهب إلى جعفر بن محمد يشكو له الحال، وكان الوزراء والحكام في ذلك العصر يقولون ويستحسنون الشعر والأدب، فرق جعفر لجليسه المدني، وقال شعراً منه:
فلا تجزع وإن أعسرت يوماً
فقد أيسرت في الزمن طويل
ولا تيأس فإن اليأس كفر
لعل الله يغني عن قليل
فإن العسر يتبعه يسار
وقول الله أصدق كل قيل
فلو أن العقول تسوق رزقاً
لكان المال عند ذوي العقول
هكذا كانوا وكانت مجالسهم.