نشرتُ سابقا سلسلة مقالات بعنوان «نرجسية اللغة – محمود شاكر أنموذجا»، تحدثت فيها عما سميته «نرجسية الإغراب» حين تولِّد أفانين من العبث اللغوي والمنهجي في تحقيق نصوص التراث خاصة، مطبِّقًا ذلك على ما زعمه استدراكات على اللغويين سجلها في حواشي «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام، واستكمل في هذه السلسلة ما تبقى من الموضوع ناظرا إليه من وِجْهة الفنتازيا، وذلك حين يضع قارئ النص على عينه عدسة مركبة من حقيقة وخيال، فلا يكون تحليل النص التراثي وشرحه كما يجب أن يكون تناولُ أيّ وثيقة تاريخية علمًا وتحقيقا، بل يصبح مزيجا من حقائق وأباطيل، وقائع وخيالات، منهج وفوضى، تلك هي فنتازيا التحقيق!
(4)
وروى ابن سلام (2 / 731) قول شبيب أيضا:
كأنّ ابنةَ العُذْرِيِّ يومَ بَدَتْ لنا
بِوادِ القُرى رَوْعَى الجَنانِ سَلِيبُ
علق محمود شاكر: «رَوعى الجَنان: من الروْع وهو الفَزَع والرعب، على وزن «فَعْلَى» صفة، ولم تثبته كتب اللغة، وهو عربيٌّ صريح، وهي العربُ تقول ما شاءت!». [علامة التعجّب منه].
أقول: هذه عَجْرَفَة، نَعَم العرب تقول ما شاءت ولكنّ لكلامها نظاما وأعرافا لا يفقهها إلا العلماء، لا مَنْ صنْعَتُه نسخ المخطوطات وتصحيحها والتفنّن في التعليق عليها وإخراجها! وليته توقّف عند حدود صنعته ولم يتشبّع بما لم يُعْطَ محرِّفًا وعابثا ومتطاولًا على مَن لا يَعْشُرُهم علمًا وعقلا. ولو كان له «تذوّقٌ» صحيح كما يزعم ويزعم له أتباعه لأدرك أنها «رَوْعَا» مقصورة من «رَوْعاء»، لأجل الوزن، لا أَنْ يخترع لفظا لا وجود له، لكنها ظاهريته التي سبق لها نظائر. يُقال: «ناقة رُواعٌ ورَوْعاء: حديدةُ الفؤاد.. شهْمة ذكية.. وقال ابن الأعرابي: فرسٌ رَوْعاء ليست من الرائعة ولكنها التي كأنّ بها فَزَعًا من ذكائها وخفة روحها»(اللسان). ولهذه العجرفة نظائر يُنفِّس بها عمّا في صدره على النحاة، كما في تعليقه على قصة ابن أبي إسحاق مع الفرزدق من قوله عنه: «وحُقَّ له» (1/17، وانظر أيضا ص21 هـ 1)، ومواضع في «نمط صعب» فيها طعْن في النحاة، تصريحا أحيانا كوصف مذاهبهم باللغَط والتحيّر(219، 220) وإشارة أحيانا أخرى(212)، متأثرًا طريقَ شيخه المرصفي كما سبق ذكره. وهي عبارات لا يمكن لذي عقل أن يلحقها بكلام العلماء فليس لها أصول تضبطها ولا منهج تسير عليه فتُعَدّ رأيًا أو مذهبًا، وإنما هي من قبيل لغة «الفُتُوَّة» و«العَنْجهيّة».
وروى ابن سلام للأغْلَب العِجْلِي(2 / 744):
في حَسَبٍ بَخٍّ وقِبْصٍ كاملٍ
وعَدَدٍ كالدَّبْرِ غير جافِلِ
علق شاكر بقوله: «بخ : سَرِيّ نبيل.. وهذا مما أخلّتْ كتب الغة في بيانه ووجوه استعماله. وأصله من قولهم في تعظيم الأمر وتفخيمه والفخر به: «بخ بخ».. والدبر: النحل، يريد مثله في الكثرة والازدحام، وقوله «غير جافل»: غير منتشر ولا متفرق ولا منزعج. وفي المخطوطة: «خامل» ولا أراه صوابا».
أقول: أما «بخ» فإن كان مقصودُه ضبطَ الكلمة وشرح معناها فقد ذكرتْه كتب اللغة لا كما زعم، وهو نفسُه لم يشرح معناها إلا من كتب اللغة! ففي اللسان: «كلمة تقال عند تعظيم الإنسان، وعند التعجّب من الشيء، وعند المدح، والرضا بالشيء.. والبَخُّ السَرِيّ من الرجال». وإن كان قصدُه أنها أخلّت باستعمالاتها النحوية فهذا تتكفل به كتب النحو، كما قال ابن قاسم: «حصْرُ أسماء الأصوات وضبطها من علم اللغة، وحظُّ النحوي أن يتكلم على بنائها» (همع الهوامع 3/111). و»بَخّ» في بيت الراجز منقولة من اسم مبنيّ على حكاية الصوت إلى وصفٍ مشتق، والتقدير: باذخ أو عظيم ونحوهما، أو على تقدير: مقولٍ فيه ذلك، كما في شرح ابن يعيش4/78. وتغييره «خامل» إلى «جافل» هو من عبثه المعتاد حين لا يعجبه ما في الأصل، أو حين لا يفهمه، فلا معيار لديه إلا ما يُدَنْدِن حوله دائما من «التذوق»! ومقتضى الأمانة أن يُثْبِت الأصل كما هو إن لم يَفهم وجهَه ويكتب رأيه في الحاشية، وهو أحيانا يفعل هذا المقتضى، وأحيانا لا يفعله كما هنا، فالمزاج - الذي يسميه: التذوق – هو وحده سيد الموقف! والحق أن «خامل» هي الأنسب للسياق، فالشاعر يقصد تصوير كثرة الفرسان والمقاتلين وحركتهم النشيطة التي لا تتوقف عن الكر والعَدْو، ولا يقصد نفْي الهروب، ولذلك شَبَّه حركتهم بحركة النحل حين يهيج فيختلط بعضُه ببعض فلا تراه ساكنا خاملا. ولو قَصَد التعبير عن الهجوم ونفْي الهروب لاختار صورة أخرى أوضح من مشهد هياج النحل.
وروى ابن سلام (2 / 748) قول أبي النجم العِجْلي:
إن النَّدامةَ والسَّدامةَ فاعْلَمَنْ
لو قد صَبَرْتُكَ للمُواسِي خاليا
علق محمود شاكر: «السدامة والسَدَم: الحزن والهم، ولم تذكر كتب اللغة «السدامة»، وهذا شاهده».
أقول: كأنه رأى في لسان العرب: «وقلّما يُفْرَد السَدَمُ من النَدَم» وقَرَنه مع قولهم: «تقول: رأيتُه سادمًا نادمًا، ورأيتُه سدْمانَ ندمانَ، ورجل سَدِمٌ نَدِمٌ» ففَهِمَ من ذلك أن النَدَم لا بد أن يقترن بالسدم حيث وقع! فقَطَع بأن الكلمة الثانية هي»السَدَامة» مُحْدِثًا لفظا لا وجود له في كتب اللغة واثقًا بما وجده في نسخ كثيرة الخطأ والتصحيف! والأولى أن تكون الكلمة مصحفة عن «السآمة»، لكنه أعجبه هذا التصحيف وتشبث به وجعله شاهدا لأنه يُشبِع لديه نزعة الإغراب والاستدراك!
وروى ابن سلام (2 / 761) للعجّاج قوله:
عنْ قِبْصِ مَنْ لاقَى أَخاسٍ أم زَكا
غَرَّقَ في القَمْقامِ أم لاقى هُوى
علق محمود شاكر: «غَرَّق بمعنى غرق الثلاثي، وشدده وأبقاه فعلا لازما».
أقول: من أين له صحة هذا الضبط؟! ولِمَ لا يكون «غُرِّقَ» بالبناء للمفعول؟ بل هذا هو الأولى لا أن يُحْدِثَ لفظا لا حُجّة له تطلُّبًا للإغراب من أوهى باب!
(5)
حكى ابن سلام قول هشام بن عبدالملك لأبي النجم العجلي: «كيف رابُكَ يا أبا النجم في النساء؟» (2/745).
علق محمود شاكر: «في الأغاني وغيره: «ما رأيك في النساء» بالياء المثناة، وهو خطأ، يدل عليه الجواب. وفي المخطوطة مضبوط كما ضبطتُه بالباء الموحدة المضمومة، وهو الصواب حقُّ الصواب»، ثم علق ذاكرًا حديث البخاري (4721) [بما خلاصته]: «أنه صلى الله عليه وسلم مرّ بنفر من اليهود فقال بعضهم: سلوه عن الروح، فقالوا: ما رابكم إليه؟.. وجاء في حديث آخر لابن مسعود: «ما رابك إلى قطعها» فقال الخطابي: «هكذا يروونه، بضم الباء، وإنما وَجْهُه: ما أربك وما حاجتك. وقد أشار ابن حجر في شرح حديث ابن مسعود أنّ أكثرهم يرويه بفتح الباء فعلًا ماضيا، فألْمَحَ إلى أن بعضهم يرويه بضم الباء، وهو الصواب إن شاء الله، فإن الطبري روى الخبر عن ابن مسعود: «فقالوا: ما رابكم إلى أن تسمعوا ما تكرهون؟ بالمعنى الذي قاله الخطابي. وإذن فقوله «ما رابكم» هو نفسه «ما أربكم». وتفسير ذلك أن الرَّيْبَ هو الأَرَب والحاجة، كما قال كعب بن مالك: قضينا من تهامةَ كلَّ ريبٍ - وخيبرَ ثم أجْمَمْنا السيوفا . فالريب والراب يقال بالياء والألف جميعا، ومثله كثير: العيب والعاب، والذَيْم والذام، والذَيْن والذان، والرَيْن والران، وخِلْتُ الشيء خَيلا وخالًا، ونِلْتُ نيلا ونالًا، وهادَه الشيءُ هَيْدا وهادًا (أفزعه)، وهاعَ هَيْعا وهاعًا(جَبُنَ)، ورِيحٌ رَيْدَة ورادَة (ليّنة)، وآنَ أينُك وآنُك (حان حيْنُك)، فهذا قياس الريب والراب بمعنى الحاجة والأرَب، وقد فسرتُه تفسيرا شافيا إن شاء الله».
أقول: قَبْل بيان إحداثه في اللغة تطلّبًا للإغراب أنبّه إلى أخطائه في المنقول والمفهوم؛ فأولًا: عبارة: «بضم الباء» ليست من كلام الخطابي بل من قول ابن الأثير في النهاية (ر ي ب) تعليقًا على كلام الخطابي في غريب الحديث (2/270)، وذَكَرَ مثله في أعلام الحديث شرح صحيح البخاري (3/1873، ت محمد سعد آل سعود).
ثانيا: لم يلمّح ابنُ حجر إلى ما فهم المحقق، بل ذكر الرواية الأشهر في الصحيح، ثم ذكر الروايات الأخرى وهي: «رأَبُكُمْ» و«أَرَبُكُمْ» و«رأْيُكُمْ»، وقال ابن حجر في الأولى: «من الرأب وهو الإصلاح، يقال فيه: رَأَبَ بين القوم إذا أصلح بينهم، وفي توجيهه هنا بُعْدٌ». وقال في الثانية التي هي من الأَرَب وهو الحاجة، وصوَّبَها الخطابيُّ: «وهذا واضح المعنى لو ساعَدَتْه الروايةُ. نعم رأيتُه في رواية المسعودي عن الأعمش عند الطبري كذلك». يقصد ما جاء في تفسير آية الإسراء 85 (انظر تفسير الطبري 15/68، ت التركي). وقال في الثالثة: «وذكر ابن التين أن رواية القابسي كرواية الحموي لكن بتحتانية بدل الموحدة، من الرأي، والله أعلم»(فتح الباري8/402، ط السلفية). فحاصِلُ روايات الصحيح في هذا اللفظ هي: «ما رابَكُمْ، ما رأَبُكُمْ، ما أَرَبُكُمْ، ما رأْيُكُمْ». (وانظر نِسْبة هذه الروايات في الجامع الصحيح بحاشية السهارنفوري 4/182، ت الندوي).
ثالثا: ذَكَرَ أن رواية الطبري في تفسيره: «ما رابُكم»، محتجًا بها على تصويب هذا اللفظ دون غيره من الألفاظ المروية في صحيح البخاري، وليس الأمر كما زعم، فاللفظ عند الطبري هو «ما أَرَبُكُمْ»، وكذلك ذكره ابن حجر.
رابعا: ليس الأمر كما زعمه الخطابي من أن الصواب في ألفاظ الصحيح هو «أَرَبُكم» دون غيره، والخطابي يتسرع أحيانا في تخطئة ما لم يَعْرِف وجهَه.
والصواب أن لكلٍ من هذه الألفاظ وجهه الصحيح المناسب للسياق، وتنوُّعُها جاء على سَنَن العرب من الصحابة وأتباعهم في الرواية بالمعنى إذا لم يتغير المقصود؛ فقوله: «ما رابَكُمْ إليه»(فعلًا ماضيا، من الرِيبة) أي ما أَقلَقَكم وأزعَجَكم إليه، و«ما رأْيُكُمْ إليه» أي ما قولُكم؟ هل نميل إليه فنكلمه؟ ضُمِّنَ معنى الميل. و«ما أَرَبُكُمْ إليه» أي ما حاجتكم، وأما «ما رَأبُكم إليه « فظنه ابن حجر- كما تقدم نقلُه - من الرأب بمعنى الإصلاح، واستبعَدَ توجيهَه إلى هذا المعنى، والأمر كما قال، ولم أراجع شروح الصحيح الأخرى لأرى ما قيل فيها، ولكنّ وجهَ هذا اللفظ فيما أرى هو القَلْب من الأَرَب، سواء هَمَزَه مَن رواه: «ما رَأَبُكُمْ» أم خفف الهمز بقلبها ألفا: «ما رابُكُمْ»، والأقرب أنه مخفَّف، لأن تخفيف الهمز هو الشائع المعروف في لغة الحجاز.
فهذا أولى مما زعمه المحقق أن اللفظ هنا هو الرَيْب نفسُه بمعنى الحاجة؛ لأنه إحداثُ لفظٍ بناءً على شاهد يحتمل أكثر من وجه، والدليل إذا تطرّق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال كما يقال. أما القول بالقلب فلا إحداث فيه، وإنما هو تفسير لِلَفظٍ واردٍ مخصوصٍ بمحلّه، في حين أن تفسير المحقق يجعل اللفظ عامًا مقيسًا، والواقع أنه لا وجود لهذا اللفظ على الصورة التي زعمها في كلام العرب، هذا أولًا. وثانيا: القياس على العَيْب والعاب والذَيْم والذام.. إلخ، قياسٌ مع الفارق؛ فهذه التي ظنَّها نظائر ثَبَتَ أنها كل ّها معتلة العين، أما هذا اللفظ في صحيح البخاري فقد رَوَوْه مهموزا: «ما رَأَبُكُمْ» (سبقت الإحالة إلى حاشية السهارنفوري على الجامع)، وحينئذ لا سبيل إلى أن يكون هو الريب نفسه. وهذا وجهٌ كافٍ. ولذا فمن الخطأ قطعُه بخطأ ما في الأغاني: «ما رأيك في النساء»، بل اللفظ هنا متوجِّهٌ ولا إشكال فيه، وهو كما ورد في حديث البخاري «ما رأيكم إليه» بالياء؛ أي ما فِعْلُك مع النساء؟ فهو يستخبره عن حاله مع النساء، والعرب تستعمل الرأي عند الاستخبار، ويدل على ذلك قول هشام له بعد ذلك: «فما ظنُّكَ بأمير المؤمنين؟ قال: ظنّي بنفسي، قال: لا علمَ لك يا أبا النجم»، فذَكَرَ «الظن» و«العلم» وكلاهما يدوران في فلك «الرأي». ثم لو كان السؤال عن «الراب»، بمعنى الريب الذي هو الحاجة كما فهم المحقق، لعُدِّيَ بإلى لا بِفِي، فهذا يدل على أن الصواب أو الأصوب: «كيف رأيُكَ يا أبا النجم في النساء». والسؤال الآن: لماذا يتكلف المحقق كل هذا التكلف تاركا الأقرب والأوضح، غيرَ مبال بما يرتكبه من فوضى لغوية ومنهجية؟! أظن الإجابة قد اتضحت من خلال الحلقات السابقة.
(6)
روى ابن سلام (2 / 775) لمُزاحِمٍ العقيلي في وصف ناقته:
لها وَرِكٌ كالجَوْبِ شُدَّتْ فَقارُهُ
حَبَتْ قُدُمًا في مَكْمَنِ الخَلْقِ مُكْمَلِ
علق محمود شاكرناقلًا تفسير جامع ديوان مزاحم: «مُكْمَل: كامل»، ثم قال شاكر: «وهذا بيِّنٌ». وجعل هذا من استدراكاته على اللغويين (2/978).
أقول: قلّده ناشرا ديوان مزاحم (كعادتهما!) طليمات ومحمد مينو (ص110). و«كامل» من كَمُلَ أو كَمَلَ يَكْمُل، و«مُكْمَل» من أَكْمَلَ يُكْمِلُ، و«مُكَمَّل» من كَمَّلَه يكَمِّله، بمعنى أتَمَّه وجَمَّلَه. والفروق بين هذه المشتقات (كامل ومُكْمَل ومُكَمَّل) مما يُعرف من علم الصرف وليس من وظيفة المعاجم. والقول بأن هذه الكلمة بمعنى تلك إنما هو من باب التقريب للتفسير، لكن الاشتقاق واختلاف التصريف يقضيان بالفرق الدلالي بينهما. وقد سبقت نظائر لخلط المحقق بين وظيفتي المعجم والتصريف.
وروى ابن سلام (2 /782) ليزيد بن الطَثْرِيَّة قوله:
وكُونِي على الواشِينَ لَدّاءَ شَغْبَةً
كما أنا للواشي أَلَدُّ شَغُوبُ
علق شاكر: «لم تذكر كتب اللغة: شغبة وشغوب، ولكنها صحيحة البناء والاشتقاق، بل قالوا رجل شَغِب ومشغب ومشاغب».
أقول: الشَغْب مصدر شَغَبَ يشغب عليهم، وورد «الشَغَب» بفتح الأوسط، وضعَّفه بعضهم. وذُكِرَ «شَغْبَة» اسم امرأة، والتسمية أبْين من الوصف، فإذا ثبَتتْ التسمية فالصفة في الكَفّ، فلا حاجة لأن تنص عليها كتب اللغة. على أنه جاء في اللسان: «هو شَغْبُ الجُنْد» بإضافة الوصف إلى مَنْ ليس هو له، وهذا يتضمن استعمالهم المصدر وصفًا للمذكر، وإذا ثبتَ هذا مع ثبوت التسمية بشَغْبَة فُهِمَ أن العرب استعملوا المؤنث «شَغْبَة» وصفًا. ويحتمل أن تكون الكلمة في البيت على»فَعِل»وصفًا، لكن سُكنتْ للوزن، بل هذا أولى لأنهم نصوا على ورود»شَغِب»وصفًا.
وحكى ابن سلام (2 /598) عن أبي الغَرَّاف قصة أبي زُبيد الطائي في وصف الأسد وافتراسه رجلا من أصحابه، ومنها قول أبي زبيد: «وساءتْ الظنون».
علق شاكر: «وساءت الظنون: أي صارت الخواطر التي تخامر النفس سيئة قبيحة، يعني أن نفوسهم حدثتهم بالهَرَب والفرار وترك المحاماة عن أنفسهم». ثم أحال إلى مقال له في «الرسالة»، عدد 910، ذكر أنه استوفى فيه بعض القول في تفسير هذه الكلمة. والمقال بعنوان: «على حدّ منكب»، شنّع فيه كعادته على التبريزي راميًا إياه بالجرأة، وعِرَض الدعوى، وكثرة التخليط، والتدليس، والاختراع، وسوء الفهم والرأي، وقلة المعرفة، والضعف الشديد (جمهرة مقالات محمود شاكر 1/560-561). وكل هذا التشنيع ليقول إنه أخطأ في تفسير سوء الظن في قول البَعِيث:
«دعاني يزيدٌ بعدما ساء ظنُهُ
وعَبْسٌ وقد كانا على حَدّ مَنْكَبِ»
(رُوِيَ بفتح الكاف وكسرها من «منكب»)، ولِيثْبت تفسيرَه الذي زعم أنه الصواب ولا صواب غيره، مستشهِدًا بأبيات أخرى كقول أشابة بن سفيان:
ومُسْتَلْحَمٍ يدعو وقد ساء ظنُهُ
بمهلكةٍ والخيلُ تَدْمى نحورُها
وقول زفر بن الحارث:
منعتُ ابنَ وَرَّادٍ وقد ساءَ ظنُهُ
وأنقذتُ مِن تحت الأسِنّة نوفلا
وقول عروة بن الورد يمدح نفسه بنصرة قومه بني عوذ:
تَدارَكَ عَوْذا بعدما ساءَ ظنُها
بماوانَ عِرْقٌ من أسامةَ أزهَرُ
وفاعل «تدارك» يعود إليه نفسِه، وقول موسى الحنفي:
وجُدْتُ بنفسٍ لا يُجادُ بمثلها
وقلتُ اطمئني حين ساءتْ ظنونُها
والحق أن قوله في التبريزي بَلْطجة له أمثالها، والطريف أن ما نسبه إلى التبريزي ليس من قوله وإنما هو منقول بنصه عن المرزوقي! (شرح الحماسة1/381. ولم يَجِدْ جامعُ مقالاته - وهو تلميذه - بُدًّا مِن وصْف تشنيع شيخه بالافتئات على التبريزي! ص 562 هـ 1)، فوقع في مثل ما وقع فيه مع الإمام ثعلب فيما سبق ذكره، حين شَنَّع عليه لقولٍ ليس له وإنما هو لابن سِيدَه!
والحق أن السوء في كلام العرب: «اسم جامع للآفات والداء»، ويقال: «ساء الشيءُ يسوء فهو سيّء إذا قَبُحَ»(اللسان)، ثم ينصرف في كل سياق إلى مقصود خاص؛ فاستاء فلانٌ أي اهتمّ، والهمّ آفةٌ نفسية، وساءت أخلاقُه أي قَبُحَتْ، وقُبْحُ الأخلاق آفة نفسية، وساء عملُه أي عصى وارتكب الخطايا، والمعاصي آفات وأدواء للنفس. و«السُوء اسم للضُرِّ وسوء الحال» (اللسان). وقوله تعالى: «الظانينَ بالله ظنَّ السَوء» قال الخليل وسيبويه: «السَوء هنا الفساد؛ يعني الظانين بالله ظن الفساد، وهو ما ظنوا أن الرسول ومَن معه لا يرجعون»، و»عليهم دائرة السوء» أي الفساد والهلاك (اللسان). ثم إن سياق الشواهد التي ذكرها تَرُدُّ تفسيرَه؛ فلا يليق في معاني الشعر في مثل هذا المقام أن يفخر الشاعر بنجدته قومًا همّوا بالفرار! فهذه استطالة منه وهجاء لهم! خصوصا في بيت عروة فكيف يفخر بنفسه ويذم قومه بالفرار؟! وكذا في بيت موسى الحنفي؛ فهل قوله عن نفسه إنه همّ بالفرار ولكنه طمْأنَ نفسه فثَبَتَتْ معنى يُتَمَدَّحُ به ؟! خلافًا لحَمْلنا سوء الظن على المعنى المعروف، فحينئذ يكون قوله كقول قَطَرِيٍّ:
أقول لها وقد طارت شَعاعًا
مِن الأبطال ويْحَكِ لن تُراعِي
فليس في ذلك عيب في حق قائله. فصواب التفسير في «سوء الظن» في مثل هذا المقام هو ما ذكره المرزوقي ونقله التبريزي مِن أنه تَسلُّط اليأس والقنوط من الحياة. وهو شعور قد ينتج عنه الفرار، فيكون الفرار حينئذ مُسّبَّبًا عن سوء الظن وليس هو سوء الظن نفسه كما زعم شاكر. فلا سند لما زعمه من معنى «سوء الظن» في مثل هذا المقام وإنما هو من خزعبلاته المعتادة، تلك التي يَسُوقها على القارئ - كعادته! – في عَجاجٍ من التهويل والتهويش والعَجْرفة.
(7)
وروى ابن سلام (2 / 783-784) ما جرى من حرب بين عُقيل بن كعب ونُمَيْر بن عامر، فأسْرَفَتْ نُميرٌ على عُقيل، فأجْمَعَتْ كلابُ بن ربيعة مع عقيل على نمير، وكلُ الثلاثة أبناء عمومة، فارتحلَتْ نميرٌ إلى بني سعد بن زيدِ مَناة، فلَحِقَتْهم كلابٌ فرَدّتْهم وتحمَّلَتْ ما عليهم من دمٍ، فقال في ذلك أبو دُوادٍ الرُؤاسِيُّ – وهو من بني كلاب – أبياتا منها:
دفَعْنا والأحبّةُ مَنْ دَفَعْنا
وكُنّا مَلْجَأً لبني نُمَيْرِ
حَوَيْنا حَجْرَنا لهمُ فَحَلُّوا
إلينا بَعْدَ تَظْعانٍ وسَيْرِ ..
فإن ذَهَبَ العمى وأمِنْتُموهمْ
فلا تسْتَبْدِلُوا أخْيالَ طَيْرِ
صديقٌ كلما كنتم بِشَرٍّ وأعداءٌ إذا كنتم بخيرِ
علق محمود شاكر: «رواية [كتاب] المُكاثَرة: فَحَلُّوا بعد تَشْلالٍ وسَيْرِ..، والتشلال مصدر: شَلَّ السائقُ إبلَه شَلًّا أي طردها، ولم تذكره المعاجم».
أقول: لا يصح استدراك اللفظ اعتمادا على هذه النسخة المعلوم ضعفها، لكن وَرَدَ: «التَشْنان» مفسَّرًا بأنه قطران الماء من الشَنَّة شيئا بعد شيء (اللسان). ومثله الشَنين والتشنين، ومن ذلك شَنُّ الغارة وإشنانُها، قال ابن فارس: «إشنان الغارة إنما هو مشتق من الشنين وهو قطران الماء من الشنة، كأنهم تفرقوا عليهم فأتوهم من كل وجه، ويقال: شَنَنْتُ الماءَ إذا صببته متفرقا». فالظاهر أن الكلمة مصحفة من «تَشْنان»، فهذا أولى من استدراك لفظ بلا سند صحيح. على أنه وقع إبدال بين النون واللام في قولهم: «شَلَّتْ العينُ دمعَها وشنّتْه: أرسلَتْه، زعم يعقوب أنه من البدل» (اللسان)، ولكنه مبدأ عام لا يفيد في خصوص لفظ «التَشْلال» الذي لم يَثْبت روايةً.
وعلق شاكر أيضا: «في [نسخة] م: «فإن ذهب العفا وأهنتموهم»، ولا أدري ما هو، والذي في المخطوطة مطابق لما في المكاثرة في المعنى: «إذا انكشف العمى». وقوله «أخيال» هو عندي جمع خال، وإن كان جمْعُه في كتب اللغة خِيلان، لأنه جَمْع فِعل الأجوف. وأراد بالخال الخَيال، وجمْعُه أخْيِلَة وخِيلان أيضا، وهو خشبة تُوضع ويُلقى عليها الثياب للغنم أو في وسط الزرع، فإذا رآه الذئب أو الطير لم يسقط عليه، يظنه إنسانا. وقد ضربوه مثلا لمن لا خير فيه ولا غناء عنده إلا غناء الخيال، يقول الأخطل:
وما يُغني عن الذُهْلَينِ إلا
كما يُغْنِي عن الغنَمِ الخيالُ
ويقول الآخر:
غُثاءٌ كثيرٌ لا عزيمةَ فيهمُ
ولكنَّ خِيلانًا عليها العمائمُ
وفسروه هنا بأنّ الخال: الجمل الضخم، وجمْعُه خيلان، شبّههم بالإبل في أبدانهم وأنه لا عقول لهم، وأظن الصواب في غير ما قالوه، وإنما الخال والخيال هو تلك الخشبة. وفي المكاثرة: «أحْناء طَيْرِ»، ولعله تصحيف. يقول لبني نمير: إذا ذهب ما كان بهم وبكم من الجهل الذي غطى على أعينكم وصرتم إلى الأمن والمودة فذلك خير لكم من أن تستبدلوا بقومكم أخيال طير، يعني بني سعد بن زيد مناة، وذلك حين همّوا بأن يلحقوا بهم».
أقول: هذه أُعْبُوثةٌ محبوكة ليست كأُعْبُوثَة «اسْتَنْشَطوا» التي سبقت في بيت مُزاحِم! ولا كأعبوثة «الهِببا» في بيت شَبِيب! وكأن النرجسية كلما توغلت في انتهاك ا لنص ازدادت مهارة في العبث، فتعيد واثقةً ترتيبَ علاقاته بما ينسجم والمعجمَ المختزن في ذهن النرجسي، فتقيس على ما تحتفظ به ذاكرتها من مفردات وقواعد وأبنية فترتجل في النص كما تشاء! ولا ضير في ذلك في ضمير الذات النرجسية لأنها هي الناطق الرسمي عن الشاعر الأول! ولكن ما إن شَمَخَتْ هذه الثقةُ بأنفها في عَجُز البيت حتى لَطَمَتْ نفسَها بإعلان حيرتها أمام صدر البيت: «لا أدري ما هو»!! وهكذا النرجسية إذْ يأتلف فيها التخبط والتناقضات دون شعور بذلك، فلها منطقها الخاص. وقد كان ما في المخطوطتين من كثرة الخطأ والتصحيف ما يزجره عن هذه التخرّصات التي يزعمها استدراكات، وفي البيت نفسه من التصحيف ما أَعلَنَ حيرتَه أمامه، ومع هذا راح يجازف قاطعًا بظنه ومخترعًا في كلام العرب ما ليس منه! وإنما يصح تخريجه في «أخْيال» لو صحت الرواية، فالتخريج والتأويل فَرْعُ الثبوت، ولا ثبوتَ هنا. ولو جرينا على طريقته من القطع بالظن لكان أولى مِن ظنه ظنونٌ عِدّةٌ ؛ فمنها أن تكون الكلمة مصحفة من «أَحْناء»، ويؤيّده ورودُها في كتاب المكاثرة. وأحْناء الطَير نواحيه وجوانبه، جمع «حِنْو»، تقول العرب: ازْجُرْ أحناءَ طيرِك، أي نواحيه. ويُراد بالطير الخِفَّة والطيش، قال لبيد (اللسان ح ن ي):
فقلتُ ازدَجِرْ أحناءَ طَيرِكَ واعْلَمَنْ
بأنّكَ إنْ قدَّمْتَ رجلَكَ عاثِرُ
وقالوا: في فلان طَيْرَةٌ وطَيْرُورَةٌ أي خفّة وطَيْش، قال الكميت:
وحِلْمُكَ عِزٌّ إذا ما حَلُمْتَ
وطَيْرَتُكَ الصابُ والحَنْظَلُ
ومنه قولهم: ازْجُرْ أحناء طَيركَ، أي جوانب خفتك وطيشك (اللسان، ط ي ر). ومعنى البيت حينئذ: لا تستبدلوا مكان الشؤم وأهله (يعني بني سعد بن زيد مناة) بقومكم؛ فأولئك صديقٌ كلّما.. إلخ. ومنها أن تكون مصحفة من «أحلام» ؛ أي لا تستبدلوا الحمق والجهل بعقولكم، والعرب تضرب أحلام الطير مثلا للسفه والطيش، كما قال شاعرهم:
لابأس بالقوم من طولٍ ومن عِظَمٍ
جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ
ولكن يَضْعُف هذا الاحتمال بالنظر إلى علاقة البيت بما يليه (صديقٌ كلما..). ومنها أن تكون مصحفة من»أحْناء عَيْرِ»، إشارةً إلى قول العرب المشهور: أَخْلَى من جَوفِ حمار (أو: عَيْر)، زعموا أنه رجلٌ من عاد اسمه حمار بن مُوَيْلع، ذُكرت قصته في كتب الأدب (انظر: ثمار القلوب84، وما يُعوّل عليه 2/688، ومجمع الأمثال 1/453). والجَوْف هنا اسم وادٍ لحمار، كان طويلا عريضا مُخْصِبا، ثم عاقبه الله لكفره، فأصبح مضرب المثل في الخراب والخلاء، وتشاءمت منه العرب، كقول الأفْوَه الأوْدِيّ:
وبشؤم البَغْيِ والغَشْمِ قديمًا
قد خلا جوفٌ ولم يبقَ حمارُ
وقول امرئ القيس: ووادٍ كجَوْفِ العَيْرِ قَفْرٍ قَطَعْتُهُ.. إلخ. ورووا عن الأصمعي أن العرب عَدَلَتْ عن اسم حمار إلى العَيْر لأنه أخفّ في الشعر وأسهل مخرجًا (المجمع1/453). و»أحْناء»جمع «حِنْو»، وهو مُنْعَرَج الوادي، وحِنْوُ كلِّ شيءٍ اعْوِجاجُه. وأحْناءُ الأمور ما تشابَهَ منها (اللسان). وهذا الاحتمال مناسب لسياق البيت، قبله وبعده، ولكن لا أقطع به ولا بغيره، وإلا كنتُ شاكريَّ النهج!
والمقصود هنا وفي كل ما سبق بيان سَرَيان الإغراب من الذات إلى النص الآخر؛ فالمحقق يَشْعُر بأن النص مِلْكُه وهو أقدر الناس على كشف سرّه، وكلما كان النص مُوغِلًا في الإغلاق – لشِدَّة تحريفٍ أوتَعَدُّدِ احتمالٍ ونحو ذلك – كانت تلك لحظة أنموذجية من لحظات فَيَضان الإغراب من الذات على النص المستهدَف، فيُعرِض المُغْرِبُ عن كل احتمال قريب ويَنْتَجِعُ الأبعدَ دائما، ولو تَرتَّبَ عليه اختراعٌ أو ركاكة، لأن هذا هو المسلك الذي يجعل «القارئ المُعجب» يلهث دائما خلف المفسِّر يستجديه المعنى، وتلك نَشْوة النرجسي!
** **
- د. خالد الغامدي