أديبٌ في زيِّ نحويٍّ، ونحويٌّ في زيِّ أديب، أستاذ لوذعيٌّ ذو هيبة وتقدير، يستميلك حديثه المترابط، وسباق كلامه المتناسق، أديب في اختيار اللفظة، عجيب في توظيف الكلمة؛ كأنَّما يرسم كلامه رسماً لا يرتجله ارتجالاً، حديثه كريشة رسَّام ينقش لوحته، فكلمته تحفة فنيَّة معجبة، حديثه حديثٌ معجب مطرب.
وأوَّل لقاءٍ لي به لمَّا أن كان وكيلاً لثانويَّة نجدٍ إذ جئته طالباً الانتقال إلى الثَّانويَّة وكنت قادماً من متوسطة وثانويَّة الخطَّة، وكان ذلك في العام الدِّراسيِّ (1413- 1414هـ)، وكانت المدرسة كانت في المباني الجاهزة قبيل الانتقال إلى المبنى المستأجر بيت الهواويِّ، فلمَّا قدَّمت له خطاب النَّقل قال لي: أهذا خطَّك؟ قلتُ: نعم، فأعطاني ورقة وقلماً، وأملى عليَّ سطراً أو سطرين، ونظر في كتابتي وامتدحها، وأثنى على خطِّي بأنَّه حسنٌ جميلٌ فشكرته على ذلك، وانتظمت مع الطَّلبة الثَّانويَّة طالباً من طلاَّبها، وكنتُ لا أعرف أحداً فيها؛ لأنَّي قدمت من ثانويَّة الخطَّة في بلدة الخطَّة إلى ثانوية نجد في مدينة حائل.
ومن لطائف المصادفات أنَّي وجدت معلِّم الرِّياضيات الأستاذ حازم السَّلاب فيها، وهو مصريُّ الجنسيَّة، وقد كان من قبل معلِّماً للرِّياضيات في متوسطة وثانوية الغزالة الَّتي كنت أدرس فيها قبل الانتقال إلى بلدة الخطَّة، فهو يعرفني ويعرف أبي -رحمة الله على أبي- لأنَّه المدرسة في بلدتنا الغزالة، وقد عمل فيها سنين عدداً، فاحتفى بي ورحَّب وسألني عن والدي والأسرة، وقال إن احتجت شيئاً أو نابني أمر في المدرسة ألَّا أتردد بما يعرض لي من مشكل في المدرسة بدافع البلديَّة والصُّحبة لأهلنا في الغزالة فأثابه الله بالخيرات وأناله منها، فحفظه الله أينما كان، فلا أعلم الآن أين حطَّت رحاله.
وتمضي خمس سنواتٍ من هذا المشهد، وأعود إلى ثانويَّة نجدٍ معلِّماً للُّغة العربيَّة مفتتح العام (1419هـ)، وقد وجدت فيها بعضاً من أساتذتي ممَّن درَّسني فيها، فبعد أن كنتُ تلميذاً عنده ها قد أصبحت زميلاً له، وممَّن وجدت الأستاذ: محمَّد القريشيُّ وقد أصبح مديراً للثَّانويَّة، وصحبت فيها عدداً من الأساتذة الأعزَّاء: أ. عبد الرَّحمن العتيق وكان أستاذاً للُّغة الإنقليزيَّة في الثَّانوية، وقد كنتُ تلميذاً له سابقاً في متوسطة وثانوية الخطَّة، وأنا الآن زميلٌ له في الثَّانويَّة وقد سررت بذلك أيَّما سرورٍ، ومنهم: أ. عبد الرَّحمن السُّلطان أستاذ اللغة العربيَّة، وفي الثَّانويَّة عددٌ من الكفاءات العلميَّة في التَّخصُّصات كافَّة، وكانت ثانوية نجدٍ آنذاك الثَّانويَّة النَّموذجيَّة أساتذةً وطلاباً.
أمَّا مدير المدرسة أ. محمَّد القريشيُّ فكان فله عناية بالتَّخصُّص أعني اللغة العربيَّة؛ إذ هو متخصِّص فهو يحمل شهادة البكالوريس في اللغة العربيَّة، ويولي أساتذة اللغة العربيَّة في الثَّانويَّة اهتماماً، وهو مولع بجمال الخطَّ وله به عناية، وهو ما عهدت عنه من قبلُ، وبرهان ذلك أنَّي لمَّا أن سلَّمته دفتر تحضير الدُّروس للاطِّلاع والإمضاء عليه، وكان دفتر التَّحضير وقتذاك يكتب بخطِّ اليد، فما أن نظر فيه حتَّى أعاد عليَّ كلمته السَّابقة لمَّا أن جئته طالباً الالتحاق بالثَّانويَّة من الثَّناء على حسن الخطّ، فقد امتدح خطَّي، ووسمه بالجمال، وأظهر إعجابه به.
ومن المواقف العلميَّة أنَّه زارني في الفصل إبَّان إلقاء أحد دروس النَّحو، وكان الدَّرس عن نواصب الفعل المضارع، فاستأذنني في محادثة الطلاب ومناقشتهم، فأجبته إلى رغبته، فساءل الطلاَّب عدداً من الأسئلة، فكأنَّهم ما أعطوه ما يريده من فقه المسألة بكمالها، فابتدرهم ذاكراً لهم أنَّ النَّواصب على ثلاثة أصناف: ما كان بلفظٍ ظاهر وهي: (أن/ لن/ كي/ إذن)، وما كان بـ(أن) مضمرة جوازاً وهو الفعل بعد لام التَّعليل، وما كان بـ(أن) مضمرة وجوباً، وهو ما كان بعد لام الجحود، وبعد الفاء والواو المسبوقتين بطلبٍ= هذه هي نواصب الفعل المضارع بإجمالٍ.
وقد أبدى لي أن الأَوْلى أن يُذكر الشَّيء مجملاً ليدركه الطَّالب بجملته، ثُمَّ يفرَّع عليه بالتَّفصيل؛ فهذه الطَّريقة أجمع للطالب، وهي طريقة أهل المتون المتن فالشَّرح، أمَّا تقطيعه على طريقة الكتب المدرسيَّة ففيها إشكال، مع أنَّها جميلة من جهةٍ غير أنَّها سيئة من جهةٍ أخرى، فذكَّرته وذكرت له أنَّ الجميع ملزم وملتزم بالكتاب المقرَّر، وليس له أن يخرج عن المقرَّر ومحتواه ما دام صواباً، وعليه فليس لنا أن ندرِّس الطلَّاب على خلاف ما هو مقرَّر، فمخالفة ذلك لا يقبلها المشرف التربويُّ ولا أظنُّك تقبلها وأنت مدير المدرسة؛ فقال: صدقتَ، وهذا صحيح، وهو الصّ َحيح في التَّعاطي مع الكتاب المقرَّر، وعليه العمل في إدارة المدرسة قبل الإشراف التَّربويِّ، ولكن هي خلجات في الصَّدر أبت إلَّا الخروج لمَّا أن حضرت الدَّرس وناقشت الطلَّاب.
وممَّا أستذكره به وأذكره له أيضاً كثرة تمثُّله بالأبيات الشِّعريَّة ذات الحكمة، وذلك عندما يحين لها مجال استشهاد أو تمثيل، فهو يوظِّفها في موقعها خير توظيف، ويسوقها في مقامها أحسن سوقٍ، وأنا الآن لن أذكر أحداثها ومقامات مواردها حينما أوردها، ولكنِّي سأسوق أمثلة من تلك الأبيات شواهد على ما أقول عنه، فمن ذلك أنَّني كنتُ أجاذبه حديثاً، ونحن نمشي معاً باتِّجاه مكتبه في المدرسة، فتمثَّل على حديثينا شاهداً ببيتين لوالي خراسان نصر بن سيَّار:
أرى خلل الرَّماد وميض نارٍ
ويوشك أن يكون له ضرامُ
فإنَّ النَّار بالعُودين تُذكَى
وإنَّ الحرب أوُّلها الكلامُ
وبعض الأبيات الَّتي يتمثَّل بها تكون جديدة عليَّ، فمن ذلك أنَّه ذات مرَّة جرى حديث عن الرُّفقة والنُّفرة، والصُّحبة والبغض، وسبق أحدهما للآخر، وكان موضع نزاعٍ ونقاشٍ أيُّهما الأبقى؟ أي: أثر الانفصام والانقطاع بعد صحبة، وأثر الصُّحبة بعد انقطاع، وهكذا أيلتئم الشَّمل بعدها أم لا؟ فقال متمثلاً في ذلك بقول زفر بن الحارث:
قد ينبُتُ المرعى على دِمَن الثَّرى
وتبقى حزازات النُّفوس كما هيا
ومثله أيضاً في حديث جرى قريب من الكلام على الصَّحبة، تمثَّل فيه بما يناسب المقام ببيتٍ ينسب للخليفة الرَّاشد أبي السِّبطين:
إنَّ القلوب إذا تنافر ودُّها
مثل الزُّجاجة كسرها لا يُشعبُ
وهكذا دواليك تمثلاً بنخب الأبيات وحِكَمِها.
فالمليء كالمورد العذب يفيدك إذا وردت على موارده، وتنتفع منه إن كنت صادقاً غير مراوغ أو محتال، وأستاذنا العزيز أ. محمَّد القريشيُّ عذب المورد، فهو لطيف المعشر حسن المسامرة، يبسط لك رواء المحبَّة، ويمحض النَّصيحة لمريدها، ويستخلص لك الفائدة، ولا يبخل عليك بما عنده، ولا يتعاظم نفسه عليك، بل حاله كقول الأوَّل:
ملأى السَّنابل تنحني بتواضعٍ
والفارغات رؤوسهنَّ شوامخ
وكانت مجالسته ومسامرته ثريَّة تتحفك بثراءٍ من خبرة الحياة والعمل، وما يحتمله من مخزون أدبيٍّ وعلميٍّ.
حفظ الله الأديب النَّحويَّ المتحدِّث والإداريَّ القدير الأستاذ: محمَّد بن سليمان القريشيَّ، وبارك له في عمله وعمره، ووفقه لكلِّ خيرٍ..
** **
د. فهيد بن رباح بن فهيد الرَّباح - كلِّيَّة اللغة العربيَّة/ جامعة الإمام محمَّد بن سعود الإسلاميَّة.
fhrabah@gmail.co