د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** في المجالس ما يَزينُ وما يَشين، وما يتفاعلُ وما يُفتعل، وما يُضيفُ وما يُضيع، وقد ننصرفُ عن مجالس بذخٍ يسكنُها التعالي والادّعاء، ونجد في جلسةِ بسطاء ما يُشعُّ ويُشيع الضياء، والفارقُ بينهما اعتناء الأولى بالشكل واحتفاءُ الأخرى بالمعنى.
** يجتذبُ الضوءُ الألق، ويحجبُ الفيءُ الفلق، وقدرُ الحياةِ التنوع، ورغائبُ بعضٍ التورع، ويبقى توازنُ الحضور والغياب مطلبًا يُطيقُه الراسخون في فهمِ الواقعِ والوقائع، والوعدِ والغد، وتعادلية البقاء والفناء.
** يتاحُ لمن ارتاد المجالسَ الالتقاءُ بمن قد تعزُّ معرفتُهم، وربما كانوا رقمًا كبيرًا فاصطفى واحدًا أو اثنين واصطفوه، ولا ينسى حين دعاه صديقاه الدكتور عبدالله الحيدري والأستاذ سعد بن عايض العتيبي للانضمام مع دوريةٍ محدودة العدد متسعة المدد، ووجد فيها الأساتذة والدكاترة: محمد الربيّع وحمد الدخيّل وإبراهيم الحازمي والشيخ محمد بن سعود الحمد، وكانت تُعقد في غرفة بأحد مطاعم الرياض، وتوقفت مؤقتًا إثر الجائحة.
** في هذه المجموعة الكريمة تعرف على باحثَين جليلين هما: الأستاذ أحمد العلاونة، وهو باحث ومحقق أردنيٌ بارز، وله أعمالٌ مشهودةٌ جعلتْه عَلَمًا في ميدانه، ومن أبرزها: ذيلُ الأعلام في عددٍ من الأجزاء، ومؤلفاتٌ عن رموزٍ كبيرةٍ منهم: حمد الجاسر وناصر الدين الأسد ومحمود الطناحي وخير الدين الزِّركلي وإبراهيم السامرائي وعمر فروخ وحسن القرشي، وقرأ له شيئًا مما كتب عن مآل مكتبات العلماء المعاصرين، وصُور الشعراء بكلماتهم، والجزء الخامس من «ذيل الأعلام»، ويتطلع لقراءة بقيتها عند توفرها، وإذ سعد بمعرفته فقد بقي التواصلُ بينهما ممتدا.
** أما الباحث الآخر فهو الشيخ نظر محمد الفاريابي، وهو أفغانيٌ مقيم في الرياض، وله تحقيقاتٌ ومؤلفاتٌ في علوم الحديث تزيد على ثلاثين عملًا، وآخرها كتابه: «عناية العلماء بصحيح مسلم: قراءةً وسماعًا وحفظًا، شرحًا وتعليقًا واختصارا»، وقرأ عن كتابه: «النكت على العمدة في الأحكام»، كما اعتنى بالدفاع عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وبنشر فضائل الإمام أحمد بن حنبل، وسبق أن طلب صاحبُكم من الشيخ نظر سيرتَه العلميةَ فضنَّ بها تواضعًا، وسمع أنه على وشْك إصدار» كُنَّاشته»، وستكون ملأى بالفرائد والفوائد، وفق طبيعة الكنّاشات.
** يميزُ بعضَ العلماء سمتُهم وصمتهم، وهذان الباحثان الجليلان مثالان على رقيّ السمتِ وجمال الصمت، وقد يظنُّ من لا يعرفهما ويغشى مجلسًا يرتادانه أنهما أقلُّ شأنًا مما هما عليه، فإذا تحدثا صدحت مرجعيتُهما في بابيهما، وليس أجملَ من ظهور العالم بصورة المتعلم؛ فلن يضيرَه من يجهل، وسيُكبره من يدري، وسيعكسان وأمثالُهما موقفًا مضادًا لخداع العناوين.
** عرف صاحبُكم الأستاذ العلاونة والشيخ نظرًا من جلسةِ المطعم، وكان لها الفضلُ في جمعه بهما، واستضافهم في أمسيةٍ لا تزال الأثرى، وإذ للمجالس الوجاهيةِ وهجُها فإنها تَنسى حضورَها ويُنسَى حبورُها، أما مجالسُ العلماء والبسطاء فتَحيا في القلب وتُحيي الحبّ.
** القيمُ ليست للإعلان.