فيصل خالد الخديدي
ذكر لي أحد الأصدقاء الفنانين من الدول الصديقة المجاورة قصة من بداياته مع الفن عندما كان طالباً في المدرسة قبل نحو الثلاثين عاما يقول فيها : (كنا خمسة طلاب متميزين في التربية الفنية ومحبين لها، يحركنا الشغف لكل ما هو فن، ونعيش أجمل لحظاتنا في إنتاج الأعمال الفنية والحديث عنها ومشاهدة رسومات الفنانين ، واعتماد معلم التربية الفنية علينا كان كبيرا جدا في إنتاج الأعمال وتنسيق المعارض، وزاد اعتماده علينا بشكل اكبر في تغذية المعرض السنوي للمدرسة بأعمالنا المنتجة طيلة العام، ومع قرب نهاية العام الدراسي واقتراب المعرض الختامي للتربية الفنية زادت الأعباء علينا في تجهيز الأعمال وتنسيق المعرض، واعتكفنا أكثر من شهر في الحضور للمدرسة بين دوام صباحي ومسائي يمتد غالباً لما بعد الساعة الثانية عشرة مساء، وفي كل مساء كان يحضر المعلم بعد أن يأخذ قسطه من الراحة ليشرف على العمل ويرى ما أنجزنا من أعمال وتنسيق، مصطحباً معه صحنا من الفول الذي أغرقه بكثير من الزيت ومعه بعض الخبز كوجبة مسائية نتحلق عليها نحن الخمسة لنسد بها الجوع ونتقوى على إكمال مهمتنا التي نعمل فيها بعشق ونهم أكثر من نهمنا لصحن الفول الذي مللناه طوال شهر العمل، وبعد انتهاء المعرض وافتتاحه وتحقيقه درع التميز على مستوى الدولة كمنجز نوعي للتعليم ولمدرستنا ولمنطقتنا ، جاء وقت التكريم لنا من معلمنا ومن إدارة المدرسة على هذا المنجز غير المسبوق والذي رفعنا فيه اسم منطقتنا بمعرض فني عالي المستوى ، وفي التكريم قدم معلمنا لكل طالب منا الخمسة علبة مغلفة بشكل لا بأس به ، فرحتنا بهذه الهدية لم تطل فعندما أزلنا التغليف عنها ، إذا بها مجموعة صابون وشامبو ( مجموعة استحمام)...!
صدمة حطمت جميع قيم السعادة والفرحة بأرواحنا الصغيرة، وكان الإحباط بهذه الهدية - التي اقل ما يقال عنها تافهة - أكبر من حجم تعبنا وصبرنا على صحن الفول كوجبة العشاء لأكثر من شهر، ولكن سرعان ما تماسكت وبثثت في الأصدقاء الأربعة روح الاعتراض ورفع الصوت والمطالبة بالحق بصوت مسموع وبكل أدب ونظام، فاتجهنا خمستنا لمدير المدرسة الذي استقبلنا بابتسامة عريضة واستقبال جيد خفف شيئاً من وطأة غضبنا، وبادرنا بقوله تفضلوا يا شبابنا الفنانين المبدعين ايش مزعلكم ؟ ... مباشرة قلت له: رأيت يا سعادة المدير منجزنا الذي تحقق باسم المدرسة وحجم الجهد والتعب والإتقان في العمل .. فهل هذا العمل يكافئ من قبل إدارتكم ومعلم التربية الفنية بصابون وشامبو! هل هذه هدية تليق بنا وباسم المدرسة ؟ وهل نحن على مستوى من القذارة لتكون هديتنا ومكافأة جهدنا أدوات استحمام ؟
ضحك مدير المدرسة وطلب مني بصوت منخفض أن أبقى أنا وهو في المكتب لوحدنا وبالفعل بقيت أنا وهو لوحدنا في مكتب الإدارة واخرج لي من درج مكتبه بعض تمرات وشوكلاته وقال: كل وهدي حالك ... والله يا ابني إن ميزانية المعرض أكثر من خمسة وعشرين ألفاً سُلمت للمعلم .. ولكن من الأفضل يا ابني تشوف الموضوع مع معلمكم دون إثارة مشاكل، فالموضوع لا يستحق إثارة ونحن في نهاية العام وفيه تجديد عقودنا مع التعليم ... وأوعدك في العام القادم بتعويضكم بما هو أجمل...!
خرجت لزملائي أجر أذيال الخيبة ووعود لم تتحقق... كبرنا وكان آخر عهد لعلاقة أصدقائي الأربعة المبدعين بالتربية الفنية والفن هو ذلك المعرض، أما أنا فلازلت أحمل شغف ذلك الطفل وحبه للفن وأمتهنه وأعيش له، ولكن في الوقت ذاته لم يتجاوز مردود الفن إلى مستوى هدية الشامبو والصابون ووجبة صحن الفول؟