يحار المرء وهو يشرع في الحديث حول الأستاذ الشاعر السيد عدنان العوامي عن أي جانب من جوانب إنجازاته تكون البداية.
لنبدأ الحديث كما تكون البدايات عادة من الجانب الزمني. في أحد أماسي رمضان المبارك في منتصف الثمانينيات وفي منزل أحد الأصدقاء، التقى لفيف من هواة الأدب في القطيف تجمعهم صداقة السنين وشجون الثقافة والشأن العام.
يبدو أن اللقاء كان ذا صيغة متكررة وربما كنت أنا الطارئ الوحيد عليه. أحسب أنه كان لقاء ثلة ممن يجمعهم الفكر والأدب. وكان بين الحاضرين شخص شغلني لفترة بعد ما قرأت له قصيدة «أغنية لتاروت» مطلعها:
عفو الصبا، تاروت، عفو الصبا
ما أجمل الذكرى وما أعذبا
إنه الشاعر الأستاذ سيد عدنان العوامي. أحببت تلك القصيدة التي استقرت في ركن خفي في ذاكرتي، وبذرت في نفسي دافع اللقاء بقائلها. حتى جاءت هذه المناسبة من غير إعداد من قبلي. كان الشاعر إذن من بين الحاضرين، لكن الرجل ظل متدثراً بالصمت. له التفاتات هنا وهناك, لكنه آثر أن يبقى صامتاً. مظهره متواضع، غير حفي بمظاهر اللباس وعلمت أنه لم يتعود اعتماد العقال أبداً. هذه الوضعية لم تتح لي فرصة مناوشته في حديث وانتهت السهرة وما خرجت منها إلا بمعرفة السيد العوامي بلحمه وشحمه، أما مكنوناته فهذا أمر يتعلق بشخصه. لكن تحفظه لا يعني انفكاكه عما حوله. تكررت اللقاءات ولكنها بقيت في آثارها في الحدود الدنيا إلا من التقدير والاحترام المشترك لقرب العمر بيننا. رُحّلنا إلى التقاعد، والتقاعد كان بالنسبة لكلينا مبكراً، وكان لا بد أن نتشوف يمنة ويسرة نتطلع إلى بعض حقول نستثمر فيها فائض القوة التي ما زلنا نحتفظ بها. وباختصار وجدنا أنفسنا نقحم أنفسنا في مشروع مشترك حر يتصل بخدمة المجتمع في جوانب الرعاية الطبية.
تأسست الشركة الطبية بمسمى «شركة الريادة الطبية» وكان المساهمون فيها قد دخلوا إليها مساهمة بحس التطوع للخدمة المجتمعية). لكن دور هؤلاء الخمسين اقتصر على دفع مساهماتهم المالية، أما المشروع فترك لأربعة أساسيين منهم: المرحوم الأستاذ عبدالغني الشماسي رئيساً فخرياً، ودكتور عادل أبو السعود (صيدلاني) والأستاذ عدنان إدارياً وأنا طبيباً. وللحق، فإن من رعى المؤسسة الوليدة في كل احتياجاتها هما ثلاثة: الأستاذ عدنان، وكان له سهم الأسد في كل التفاصيل وأنا أساعده بقدر ما أستطيع والدكتور عادل أبو السعود بتجربته الطويلة كونه صاحب أقدم صيدلية في القطيف.
أحسب أن خبرة العوامي في العمل التجاري كانت خبرة مراقب ذكي، لكنه لم يتورط في مشروع يتضمن شيئاً من التعقيد في المتابعة والمراجعة والاستقدام إلا في هذه التجربة. وتبين ذلك أن العوامي ظل يختزن في داخله قدرات متعددة غنية في حقول متعددة. فهو في طفولته كان يرعى غنم, وفي يفاعته عمل عند أحد المقاولين في أعمال التنظيف، ثم تلقى فك الأبجدية على يد أحد العمال الباكستانيين، وبعد عمله مع المقاولين في شتي النشاطات عمل في الدولة في فروع متعددة أيضاً، آخرها إدارة بلدية القديح/ القطيف. ومع ذلك لم تتركه الأقدار في حاله إذ ما لبث أن قبع لبضع سنين خلافاً لرغبته في مكان منعزل انقطع عن العمل وانقطع مورده المعاشي لا يكد, وهو المتزوج والراعي لأسرة من أب طاعن عاجز ومن أسرة، قال لي ذات يوم إنه مسؤول عن سد أفواه «16 بوز».
في هذا الخضم من المشاكل والصعوبات قُدّ معدن هذا الرجل، فهو على مستوى الفن شاعر، وعلى مستوى العمل الإداري مدير ومحاسب، وعلى مستوى الأسرة كاسب قوتها، وعلى مستوى المهارات المهنية هو سبّاك وكهربائي وفلاح وصياد سمك، الرجل كان -إذن- كنزاً من القدرات والمهارات والأفكار المرتبطة بطين الأرض وعرق الجبين.
غير أن الخيط المتواصل الثابت في سيرة الرجل هو تجذره في تربة بلده وحبه لها ولناسها. وهذا ما أورث في تكوينه روح التطوع والبذل. نبعه الثري هو الحب، مزجه بفهم عميق لمغزى الحديث الشريف: المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف وفي كل خير. هذا ما جسدته شخصية العوامي، وهذا ما تسلل إلى معرفتي على مر سنين صداقتنا التي أوشكت أن تحتفل بعيدها الخمسين.
تسلم العوامي -إذن- إدارة الشركة الناشئة، وكانت نشاطاته لصالح مشروعها تطوعاً خالصاً. تفاصيل هذه الإسهامات قد يأتي الحديث عنها في مناسبة أخرى. كل ما أردت بيانه هنا هو الطيف الواسع لمهارات الحياة عند العوامي، وكيف طوعها لخدمة مجتمعه في صورة هذه المؤسسة الصحية الاجتماعية.
ولشاعرنا في ميدان الخدمة الاجتماعية تراث طويل، أبرزه عمله في مكتب التنمية الاجتماعية لزمن طويل.
هذه بداية اكتشافنا لملكاته التطوعية، وسيتضح لنا هذا في أكثر مساهماته الأخرى في قابل الأيام أنه يقيم على كنز من الخيال المبدع والمبادآت الواقعية الفاعلة وربط القول بالعمل.
امتدت روحه التطوعية فيما بعد في التصدي لمشروع ثقافي- تاريخي يخدم به وطنه ويعلي به من شأنه. وتلخص مشروعه هذا في إحياء الاهتمام بتراث السابقين والمعاصرين من أبناء وطنه، وما تحقق على أيديهم من إنجازات هي مفخرة لوطنه.
شرع السيد عدنان في عمل دؤوب وبتكريس لا يضاهى في استنقاذ آثار شاعر القطيف الأشهر: أبو جعفر الخطي. جمع ما أمكن من مخطوطات حول شعره، قارن بينها، كشف أخطاءها، نقح وصحح، وأضاف إلى ذلك معلومات شارحة للحوادث التي وقعت في زمن الشاعر، وأضاف إلى كل ذلك وجهة نظره مشفوعة بشعر مقارن، كما أفاض في شرح معاني ومفردات مستغلقة وردت في الشعر ومناسبات قولها.
لا أدري من أوصل خبر هذا المشروع إلى مؤسسة البابطين بالكويت، وواضح أن النسخة النهائية أثارت إعجاب المؤسسة المذكورة، وتبرعت بطبع هذا التحقيق في أحسن بزة طباعية، وألمحت إلى استعداد المؤسسة لإعطاء الشاعر السيد عدنان مكافأة مجزية، غير أن المؤسسة وضعت شرط التنقيح والتعديل. وخشي الشاعر، العوامي، أن التنقيح المقترح قد لا يتوافق مع قناعته. كان جوابه على عرض المؤسسة: شكراً لكم. هذه المخطوطة هي أنا، تحمل نفسي، ولن أرضى بكنوز الدنيا أن يغير فيها حرف واحد. وانتهى الموضوع عند هذا الحد. تحمل الشاعر ما ترتب على موقفه، فقام هو بإتمام إجراءات الطباعة والنشر على حسابه الخاص. وظهر تحقيق ديوان الخطي في مجلدين، وفي طباعة قشيبة، إلا أنه دفع ثمن فروسيته لأن الكتاب لم يظفر بالتوزيع المنشود. مثاليو هذا الزمن الذي كانوا يألمون ويحبطون بسبب تغول المؤسسات (دور النشر) وتغول المال التسويق.
ثم فرغ الرجل وبدأ يتعرض لضغوط عاشقي شعره، متى يا سيد عدنان نرى آثارك في متناولنا؟ وبعد لأي وتردد، أقدم على طبع ديوانه الأول «شاطئ اليباب». حين وقع هذا الديوان في يد شاعر آخر يثمن الشعر والفن- هذا الشاعر وهو الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- قال وهو يستعرض نماذج قصيرة من قصائد العوامي في الديوان: ما أقرأ في هذه القصائد من شعر نزار، أم من شعر أمين نخلة، أم شعر بدوي الجبل أم من شعر سعيد عقل؟ هو لا يعني أن العوامي اقتبس من هؤلاء الشعراء، إنما يعني أن سوية شعره تضاهي آثار هؤلاء الفطاحل. قال القصيبي هذه الكلمات وهي كافية، بليغة وتحكي بالإيجاز ما تحكيه بحوث ومقالات.
وفي سياق اهتمامه بإحياء تراث أبناء محيطه وخشيته عليه من الإهمال والنسيان، اتجه لآثار الغابرين والمعاصرين ممن يرى جدارتهم بالإحياء. ووقع اختياره الأول على رجل من وطنه شهرته الكبرى في محافظة القطيف، تصديه للدفاع عن مصالحهم وقيادة مجتمعه إلى التقدم والإصلاح وهو المرحوم علي بن حسن أبو السعود. فقد احتفظ أبناؤه بكتاباته المتنوعة في الرواية والشعر والخواطر التي اتخذت صيغة الشذرات، وحين علم بها الشاعر بلغه المعنيون: مهمتك صعبة يا أستاذ عدنان، صاح أنا لها. كرس ما يقرب من عام وهو ينفض الغبار عنها ويكافح ما تراكم عليها من عثة الحشرات وعنة الزمن، ثم أخرج من آثار أبي السعود أربعة كتب: رواية شيخة، وهي رواية تاريخية نابضة بالحب تزيح الستار عن مرحلة تاريخية في القطيف، يجهلها أكثر الناس، ثم استدار لمجموعات الأستاذ على أبو السعود النثرية والشعرية، كما حقق أيضاً في مكاتبات أبي السعود مع رجالات الحكومة السعودية، وعلى رأسهم -آنذاك- المغفور له الملك عبدالعزيز.
وفي عمل تطوعي آخر، قام الأستاذ المحقق الشاعر بتجميع كتابات وشهادات شخصية للراحل السيد علي العوامي -رحمه الله- عن مرحلة النفط وآثاره على الوعي والمجتمع، مع إشارات إلى ما أسماه المؤلف «الحركة العمالية الوطنية»، وقد طبع الكتاب في لندن في مجلدين متوسطين، وقد نال هذا الكتاب انتشاراً مشهوداً.
ثم كرس سلسلة العمل التطوعي في إحياء إنجازات الشعراء والكتاب الراحلين والمعاصرين ومن هذه السلسلة: ديوان المرحوم عبدالوهاب المجمر، وديوان الشاعر أحمد الكوفي، وديوان الشاعر عبدالله الجشي، الذي طبع على نفقة الأستاذ عبدالمقصود خوجة.
إلى هذا كله تصدى الشاعر العوامي لتنقيح ونشر آثار معاصريه التي لم تكن نزهة، بل جهداً، وكان امتحاناً لا تقوى عليه مؤسسات. ولا ننسى في الأخير تعاون العوامي مع المؤرخ القدير القشعمي في إنجاز بعض آثاره: مراجعة وتنقيحاً وإخراجاً.
في الختام، يجب التنويه إلى أن السيد العوامي حصل على من يحتفي به ويقدره على هذه الإنجازات. كما احتفل به في مناسبات أقيمت خصيصاً له في منتدى الثلاثاء في تاروت، وفي الأحساء وفي الرياض وجدة. وما ذكر في هذا النص لا يوفيه حقه الكامل، وربما يتاح لمحبيه أن يتابعوا إنجازاته ويكرموه، فهو كنز لوطنه وثروة شعرية وفكرية لا تقدر بثمن.
** **
- د. حسن البريكي