وكاد مؤلف (كتاب الجمهرة في أيام العرب) - بتحقيق د. أحمد عطية - يضعنا في حيرة حين قال: «قال ابن إسحاق الكلبي». وعلق المحقق بقوله: «لعله يقصد هشام بن محمد بن السائب الكلبي». وقد اتضح أنه هو المقصود حين قال بعد صفحات: «قال أبو المنذر وأصحاب الرواية». فأبان عن أن المقصود بالكلبي هشام.
يقول المحقق: «والغريب أنه يروي هذا الجزء عن محمد بن إسحاق الكلبي». ولم يبين ما وجه الغرابة، ألأن ابن شبة وُلد بعد وفاته باثنتين وعشرين سنة؟ فهو لم يرو عنه مباشرة، فهو يقول (قال) دون أن يبين السلسلة التي أوصلته به، وكذلك يفعل مع كل رواته في جزأي الكتاب الآخرين. وكان الأجدر به أن يعجب لأنه أخذ عن ابن إسحاق الشعر مع ما عُرف عنه من جهل بالشعر؛ صحيحه وموضوعه، جيده ورديئة، فقد قال عنه ابن سلام الجمحي: «وكان ممن أفسد الشعر وهجنه وحمل كل غثاء منه محمد بن إسحاق بن يسار، مولى آل مخرمة بن المطلب بن عبد مناف، وكان من علماء الناس بالسير وغير ذلك، فقبل الناس عنه الشعر، وكان يعتذر منها ويقول: لا علم لي بالشعر أُتينا به فأحمله. ولم يكن ذلك له عذرا، فكتب في السير أشعار الرجال الذين لم يقولوا شعرا قط، وأشعار النساء فضلا عن الرجال، ثم جاوز ذلك إلى عاد وثمود فكتب لهم أشعارا كثيرة وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف».
ويبدو المحقق مطمئنا إلى صحة نسبة هذه الأشعار لقائليها اعتمادا على ثقته بمؤلف الكتاب، فيقول: «وهنا نقطة مهمة يجب أن تعالج قبل الولوج إلى النص، وهي تتمثل في دراسة المصادر التي استقى منها الكتاب مادته الشعرية على الأقل فضلا عن الأخبار الواردة فيه، مع أن دراسة المصادر قد لا تكون ذات قيمة في مثل هذه الدراسة، لأني لست بصدد جمع مادة شعرية من كتب شتى، ثم محاولة التأكد من صحتها وصحة نسبتها إلى الشاعر الذي قالها، وإلى العصر الذي قيلت فيه، وإنما أنا بصدد نص محقق لمؤلف أجمعت عليه معظم كتب التراجم أنه رجل ثقة، وقد أثبتُّ بما لا يدع - غالبا - مجالا للشك من صحة نسبة هذا الكتاب إلى المؤلف عمر بن شبة، وبذلك يكون من المنطقي صحة ما ورد في النص المحقق من أخبار ومن مواد شعرية مرتبطة بها»!!.
وإن كنت أوافق المحقق على الوثوق بعمر بن شبة، إلا أن رواته مدعاة للشك، بدءا من ابن نافع المجهول في الجزء الأول، مرورا بالرواة المجهولين في الجزء الثاني، وانتهاء بابن إسحاق في الجزء الثالث. ولا سيما أنه القائل في مقدمة تحقيقه ديوانَ البراق: «إن الطريقة العلمية الصحيحة التي يمكن أن تكتمل بها صورة تراثنا العربي في تلك الفترة الزمنية التي تعرضت كثيرا لرياح الشك هي الوقوف على هذا التراث مفرقا في الكتب الأدبية والتاريخية الكبرى التي صحت روايتها عن جمع من الفضلاء غير المشكوك في صدقهم، والذين نقلوها عن ثقات؛ إما بالسماع أو بالرواية».
وهو القائل: «يتبقى عامل الرواية هو العنصر الأهم الذي يمكن الاعتماد عليه في جميع ما صح من تراثنا العربي، وهو عنصر يحتاج إلى دراسة سلاسل الرواة المختلفة المتناثرة التي نقلت من خلالها كتب التراث الكبرى وبيان الصادق من رجالها والزائف منهم».
ومضى المحقق الكريم يسرد لنا إحصائية بعدد القصائد والمقطعات والأبيات التي اشتمل عليها كتاب الجمهرة (2456 بيتا لستة وتسعين شاعرا) ليقول: «وهذا يعكس لنا قيمة هذا النص المحقق، وبيان مكانته بين كتب الأدب الأخرى».
والحقيقة أن الكثرة ليست دليلا على قيمة النص المحقق. لأننا إذا عدنا لتأمل محتوى الكتاب فسنجد ما يلي:
1 - لم يرد أي ذكر في المصادر التاريخية لحرب ضبيعة وسدوس التي أوردها المؤلف في بداية الجزء الأول، والتي نشبت بسبب قتل الحارث بن عباد الفضيلَ بن عمران بن نبيه.
2 - بعد الحادثة لم يقبل عمران رأس الحارث كفاء لابنه القتيل، بل طالب برأس كليب أو البراق، وقال في ذلك شعرا، ولم نجد ردًّا من أي منهما عليه.
3 - أن البراق لم يشترك في هذه الحرب، وهي التي التحق بها قريبه وصديقه كليب بن ربيعة، ولكيز عم البراق وبنوه. مع أن كليبا وبعض إخوته اشتركوا معه في حرب أخواله طي وأحلافهم قضاعة، كما آزروه لاحقا في رحلته لاستعادة ليلى من مختطفيها الفرس، وقاتلوا معه.
4 - كما أن البراق لم يرد له ذكر في حرب تحالف قبائل العرب لتُبَّع اليماني المعروفة بيوم (خزاز) على الرغم من أنها كانت بقيادة كليب، وبها استحق أن يتزعم العرب.
5 - كما لم يرد للبراق ذكر في حرب البسوس. وقد يكون ذلك بسبب وفاته، فقد توفي قريبا من سنة 470 م، والمؤرخون لم يحددوا تاريخا دقيقا لبداية حرب البسوس، وإن أجمعوا على أنها في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي.
** **
- سعد عبد الله الغريبي