في محاضرة بعنوان: «ثقافة التفاهة»، كان كرسي الدكتور غازي القصيبي بجامعة اليمامة على موعد مع الدكتور عثمان الصيني رئيس تحرير صحيفة الوطن لإلقاء هذه المحاضرة بهذا العنوان يوم الثلاثاء الماضي، وفيما يلي نصها:
التساؤل الأول الذي يطرأ على الذهن هو هل للتفاهة ثقافة؟ وهل يحق لنا أن نجعل التفاهة نوعاً من أنواع الثقافة؟ أم أن هذا العنوان استفزازي لإحداث ما يشبه الصدمة للمتلقي؟ وهل يحتاج المتلقي إلى صدمة من التفاهة بعد أن أحاطت به المتغيرات المتسارعة والمتلاحقة بصدمات لا يستوعبها ولا يدرك أحد مداها؟ إجابات هذه الأسئلة يجب أن تتأسس بداية على تحرير مفهوم الثقافة والتفاهة.
التفاهة تعني في كل التعريفات شيئاً دونياً وغير مقبول اجتماعياً، ففي اللغة العربية معنى تَفِه الشيء: أي قلَّ وخَسّ وحَقُر، وتَفِه الرجل بمعنى: حمُق، وفي حديث عائشة -رضي الله عنها-: «ما كانت اليد تقطع على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- في الشيء التافه» أي الحقير والقليل والخسيس، يقول أبو الأسود الدؤلي في مولاه الذي خان الأمانة:
متى يخْلُ يوما وحده بأمانة
تُغَلُّ جميعا أو يُغَلُّ فريقها
ويُهلِكُها حتى تصير تفاهة
ويَلحقُها من كل غيّ لُحوقُها
وفي معجم أكسفورد: الخلو من الأهمية وعدم الجدوى، أما الثقافة فتعني بحسب إدوارد تايلور: مجموعة العادات والتقاليد التي يكتسبها الإنسان ضمن مجتمع يعيش فيه والقوانين التي تحكم الفرد، وبحسب سابير: مجموعة الأفكار والمعلومات والخبرات التي تنتشر في مجتمع ما بسبب التأييد لها، ويكون أساسها الموروث.
وانطلاقاً من هذين التعريفين يتحدد موقف الثقافة والتفاهة في تراتبية سلم المعرفة الاجتماعية وتمثلاتها السلوكية، فالثقافة هي تراكم معرفي وخبرات وعادات وتقاليد وأفكار وممارسات تكونت عبر الأجيال، وتميز كل مجتمع عن الآخر بمكوناته الثقافية التي يرون أنها تسهم في الحفاظ على هويته وتعلي من شأنه، وتساعد أفراده على أداء دورهم في المجتمع، والتفاهة تشترك مع الثقافة في أنها مجموعة ممارسات وسلوكيات وأفكار تكونت أو في سبيلها إلى التكون، وتؤدي إلى تمايز يجعلها مختلفة عن أفراد وجماعات قد لا تشترك معها في هذه السمات لكنها تختلف عن الثقافة في 3 أمور؛ أولهما: أنها لا تتكئ على تراكم خبرات يجعلها جزءاً من موروث المجتمع وتشكل هويته، وإنما هي موجات أو فقاعات مرحلية تتغير بتغير العصور والمجتمعات، والأمر الثاني: هناك قناعة مجتمعية بأن التفاهة موجودة ومقبولة ولكنها في الطبقة الدنيا المسكوت عنها، والثالث: أن التفاهة تفتقر إلى التأييد المجتمعي بخلاف الثقافة.
ولذلك كان هناك مستويان من أداء الجماعات أو المجموعات أعلاها الثقافة وأدناها التفاهة، وكلاهما مقبول ومتعارف عليه ومعروفة حدودهما ومواصفاتهما في شتى مناحي الحياة الرسمية والشعبية، وتاريخ المجتمعات العربية مليء بالنماذج لأنها تلامس الطبيعة الإنسانية في أن لها جانباً علوياً تسعى إلى تكريسه، وجانباً سفلياً تقبله وتغض الطرف عنه، ولكنها تضعه ضمن حدوده وتتعامل معه وفق هذا المعيار، ويعطي المثل العربي «أحمضت الإبل» خير دليل على ذلك، أي إذا ملت من رعي نبات الخُلَّة وهو الحلو من النبات اشتهت الحَمض وهو من أردأ نباتات الرعي فتحولت إليه، ولذلك كان الإمام المحدث محمد بن شهاب الزهري يحدث بالأحاديث ثم يقول: هاتوا من أشعاركم وحديثكم فإن الأذن مجّاجة وللنفس حمضة، أي شهوة كما تشتهي الإبل الحمض.
هذان المستويان من الممارسات كانا سائدين أو متعارف عليهما غير مستهجنين من كافة طوائف المجتمع حتى العلماء والفقهاء، ولا يعد عندهم من باب النفاق الاجتماعي، وإنما هما مستويان اجتماعيان مقبولان عرفاً وثقافة، ففي الشعر مثلاً نجد بشار بن برد الذي قال من أشهر أبيات الغزل:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة
والأذن تعشق قبل العين أحياناً
هو نفسه الذي يقول:
رباب ربة البيت
تصب الخل بالزيت
لها عشر دجاجات
وديك حسن الصوت
وفي العصور المتأخرة نجد بردة البوصيري التي مطلعها:
أمن تذكُّر جيران بذي سلم
مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
مولاي صل وسلم دائماً وأبدا
على حبيبك خير الناس كلهم
إلى جانب بعض شعر ابن سكرة الهاشمي الذي يبعث على الغثيان، وقصيدة المغربي وفيها:
ددن دبي ددن دبي
أنا علي بن المغربي
والموازين بين المستويين واضحة وهي ما جعلت بشاراً يرد على الناس لما لاموه بقوله: لو ذهبتم لرباب وسألتموها أي الأبيات أجمل؟ ولعل ذلك يتضح أكثر في شعر المعارضات المتأخرة مثل معارضة قصيدة أحمد شوقي:
قم ناج جلّق وانشد رسم من بانوا
مشت على الرسم أحداث وأزمان
عارضها شاعر بقوله:
قم ناج تبسيّك المملوء قرصان
واهتف بإحضاره فالبطن غرثان
هذا الجريش طعام لا مثيل له
عليه من مستهل السمن غدران
فاضرب بخمسك لا تأكل بملعقة
إن الملاعق للنعماء كفران
فاعرشه واهرشه ثم اطحن بقيته
إن البقايا بها خير وإحسان
بمعنى أن المستويين قد يكونان مقبولين لشخص أو جماعة في حالين مختلفين كما في قول الزهري، وقد تكون للتفكُّه كما في المعارضة الشعرية، وقد تكون لشخصين أو جماعتين مختلفتين كجمهور المتلقين ورباب، وللنوع الأخير جاء المثل الشهير: لكل ساقطة في الحي لاقطة.
وفي الغناء نجد إلى جانب القصائد المغناة لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم أغنية ليلى نظمي «الطشت قللي ياحلوة يللي قومي استحمي» ومحمد حميدة «لولاكي» وأحمد عدوية «أهل الله يللي فوق طب بصوا على اللي تحت، حبة فوق وحبة تحت»، وأغنية أوكا وأوتيجا «قاعد لوحدك كده سرحان شيطان يوزك سكة شمال العب يلا».
وهذا ليس منحصراً في الثقافة العربية أو المجتمعات العربية فهي سمة عالمية، فالدول التي تقدمت في معظم المؤشرات العالمية في شتى المجالات نجد ممارسات أفرادها الحضارية تسير إلى جانب تفاهاتهم، وآخر مثال على ذلك لعبة البوب كات Pop cat وهي لعبة تافهة وسطحية يتم تحميلها على الجوالات والأجهزة اللوحية والحواسيب، عبارة عن قط يفتح فمه مع كل لمسة شاشة (هكذا فقط) وانتشر تحدٍّ على وسائل التواصل في العالم أجمع بين نشطاء العالم من يجعل القطة تفتح فمها أكثر (يضغط على الشاشة) وكلما نقرت على الشاشة يتم فتح فم القط وإغلاقه مرة أخرى وتحتسب نقطة لك، وبالتالي يزداد عدد نقرات مستخدمي بلدك بزيادة عدد نقرات سكانه، وقبل أكثر من شهر وصل عدد النقرات حول العالم 556 ملياراً وأصبح ترتيب الدول فيه في ذلك الوقت:
الأولى هونج كونج 122 ملياراً
السابعة السعودية 6 مليارات
والمثال المقزز أكثر ما حدث مع المغنية صوفيا في فرقة brass against حين كانت تغني على المسرح، وفجأة طلبت واحداً من الجمهور المحتشد أن يصعد للمسرح ويستلقي على الأرض ثم بالت على وجهه أمام الكل والكاميرات والأمن، وتناولت القنوات ووسائل التواصل هذا المقطع حتى وصلت مشاهداته في تويتر أكثر من مليونين خلال ساعات.
فإذا كانت التفاهة موجودة ومقبولة تاريخياً في تراثنا العربي ومنتشرة في كل دول العالم خاصة في زمن العولمة والبرامج العابرة للحدود، يبرز السؤال الحاد والحارق: ما المشكلة إذاً؟ ولماذا نقف منها هذا الموقف؟ ومتى تصبح الثقافة مقبولة ومتى تصبح خطراً يهدد القيم؟ ومن المسؤول عن إشاعة التفاهة أو الحد منها؟
الجواب ببساطة هو أن المسألة تصبح خطرة حين تذوب المعايير وتختلط حدود القيم وتدمَّر قيمة الأشياء التي بنتها حضارات الإنسان في مختلف الأماكن على مدى آلاف السنين ويصبح اللاقيمة هو القيمة، فالصدق قيمة والأخلاق قيمة والخير قيمة والجمال قيمة والعدل قيمة، والكل يعرف أن الكذب ضد الصدق حتى من يكذب، ويعرف أن العدل قيمة حتى حين يظلم، لكن الخطورة حين يصبح الكذب قيمة واللاخلق قيمة، وينشأ جيل تختلط عنده الأمور فلا يميز بين القيم التي ترسخت عبر الأجيال وانبنت عليها ثقافات وحضارات وبين اللاقيمة.
وأنا هنا لا أتحدث عن التطور الذي يطرأ على التفكير والتغير الذي يحدث للثقافة، ولا عن السلوك الاجتماعي الذي يكون مقبولاً في زمان ومجتمع ومستهجناً ومرفوضاً في زمان آخر ومجتمع مختلف، فالأكل في الأسواق كان من خوارم المروءة ولا تقبل بسببه الشهادة، واليوم أصبح الناس يأكلون ويشربون في المطاعم والمقاهي والأماكن العامة المفتوحة، ويستمتعون بل ويتباهون ويصورون، وهذا شيء طبيعي وليس هو المقصود.
ما يحدث الآن هو أن هناك سلوكيات اجتماعية تعارف عليها المجتمع أنها من باب التفاهة والسلوك الشائن ويتقبلها في هذا الإطار، فالمبالغة والهياط يتعامل معها الناس على أنها هياط، ويتقبلونها من هذا الباب، ويتناقلون قصصها وأحداثها من باب التفكُّه فيضحكون ويعلقون ويطقطقون وربما يتنمرون، وتبقى بعد ذلك المبالغة مبالغة والهياط هياطاً والصدق صدقاً، ويتناقل الناس نكت المحششين فيضحكون ويسخرون، ولكن يبقى المحشش بعد ذلك مرفوضاً اجتماعياً ومريضاً سلوكياً ومذنباً جنائياً، كما يبقى الحشيش من المخدرات المجرمة قانوناً، ولا تعني رواية نكتة محشش أننا نؤيد تعاطي المخدرات، بل تظل في إطارها الاجتماعي المعروف، والآن نشاهد بعض مشاهير السناب يختلقون قصصاً ويعرضون منشورات ويتاجرون بأجسادهم وأطفالهم وآبائهم وأمهاتهم في مواقف غير مسؤولة ويقومون بأفعال غريبة ومستهجنة لفظاً وفعلاً، تصل إلى حد مسخرة أحد الأبوين أو اختلاق قصة ولادة غير حقيقية باستغلال المواليد، بهدف زيادة المتابعين وبالتالي زيادة الإعلان والدخل، ويعرضون حياة مزيفة بالسيارات الفاخرة المستأجرة والقصور المزعومة وهدايا الزواج الخيالية، ويمكن لهذا الأمر أن يكون مقبولاً اجتماعياً لو بقي في إطاره الحقيقي، لكن الخطورة تكمن فيما يسمى «نقطة التحول» وهو مصطلح معروف في علم الاجتماع، بمعنى أن تكون هناك سلوكيات وأحداث تتكرر وتتضخم، ويحدث هناك تراكم حدثي يزيد يوماً بعد يوم، وتقف خلفه شبكة كبيرة تقوم بإنتاج هذا التراكم بشكل ضخم دون انقطاع بوعي أو بدون وعي، وينشأ ما يشبه التنظيم الاجتماعي من حيث وجود مجموعة متسقة الأفكار متشابهة السلوك ومتوافقة الأهداف والمصالح، تعزز لبعضها وتدافع عن بعضها وتتبادل المصالح فيما بينها حتى يتحول مع هذا التراكم والضغط المستمر على أفراد المجتمع إلى وباء اجتماعي يصيب الجميع، وأول ضحاياه أجيال لا تملك مناعة تحميها من الاختراق ولم تكتسب حصانة من مؤسسة البيت والمدرسة والجامعة وقيم المجتمع السائدة، فتظن أن هذا هو السياق الحقيقي والحياة الحقيقية، وتنشأ قطيعة معرفية بين جيل لم ينشأ على السناب والتيك توك والإنستجرام، وجيل أصبح يأكل ويشرب وينام ويتنفس مع هذه التطبيقات، ، فإذا أضفنا إلى ذلك أن مجتمعنا مجتمع شاب، وعدد سكانه من السعوديين من جيل Alpha, Z يبلغ عددهم 14 مليوناً بنسبة 60 في المئة ، فإذا استبعدنا ما دون 6 سنوات يكون العدد ملوناً، وهذا الجيل فتح عينه مع دخول الإنترنت الذي غيَّر كل أنساق الحياة السابقة وانغمر بعد ذلك في التطبيقات المختلفة، فإذا أضفنا له جيل Y من السكان عموما يصل عدده 24 مليوناً بنسبة 68 في المئة.
تقوم المجتمعات عادة بالتوافق مع التطورات الجديدة واستيعابها دون أن تفقد قيمها ومعاييرها السلوكية متى قامت مؤسسات المجتمع بدورها الحقيقي، فالبيت الذي نشأ أطفاله في فترة الطفرة الثانية بطريقة مختلفة والمدارس والجامعات التي آثرت الكم على نوعية التعليم الحقيقي، وضغط التيار المتشدد المتزامن في نفس الفترة الذي أورث ردة فعل معاكسة، فإذا جئنا إلى خط الدفاع الأخير وهو السلطة التنفيذية المتمثلة في الوزارات وهيئات المجتمع المدني فإننا نجد أن هناك فقراً في أعدادها وفاعلياتها وأدوارها في تلك الفترة مع بدايات انتشار الوباء الاجتماعي، فيما انساقت بعض الإدارات الحكومية وراء هذه الظاهرة، فهي التي شرعنت التفاهة عندما فتحت الباب للاستعانة بالمشاهير التافهين في الأمور الجدية، وخصصت ميزانيات ضخمة لإعلاناتهم، وأصبح فعلهم هذا نوعاً من التأييد نقل التفاهة إلى الثقافة، ومما يحز في النفس أن ميادين الشرف والقتال حيث تبرز قيم الوطنية والفداء والتضحية والنبل والشهامة تم دفع مبالغ طائلة لبعض المشاهير من شباب سطحي وفتيات يتمايلن ويستعرضن أمام دبابة، أو وسط أبطالنا في الحد الجنوبي بشكل يعطي انطباعاً لجيل كامل يتابعهم بالتفاهة والعبثية، وأصبح هؤلاء التافهون والتافهات المثل الأعلى الذي يحظى بالثراء والشهرة والجماهيرية، وتفتح لهم الأبواب ويُستقبَلون استقبال الأبطال من خلف ميزانيات الإعلانات الضخمة التي دفعتها بشكل غير معلن وظهرت بعض أرقامها على الملأ، وترتب على هذا أننا لو أجرينا استطلاع رأي على جيل طلاب الثانوية والجامعات عن طموحهم في المستقبل لوجدنا الغالبية منهم ومنهن يتمنون أن يصبحوا مشاهير ولديهم براندات باسمهم، ويفتحون مقهى أو مطعماً وقصراً فخماً وسيارة غالية، وتراجعت إلى الخلف أمنيات أن يصبح طبيباً أو مهندساً أو طياراً أو ضابطاً.
الخطير دائماً في نقطة التحول أن تراكم سلوكيات معينة وانتشارها وإنتاجها بهذه الضخامة تبقى مسكوتاً عنها لفترة ثم تصل إلى مرحلة تصير هي السائدة وغيرها خروجاً عن السائد ومستنكراً، كالسيول التي تندفع في الوادي باتجاه السد ويستوعب تدفقها إلى أن تأتي لحظة هي «نقطة التحول» حين لا يستطيع السد الوقوف أمامها فينهار وتجرف المياه كل ما هو أمامها ولا يستطيع أحد الوقوف بوجهها.
وهكذا هو سد القيم المجتمعية والأعراف التي ينشأ عليها الأطفال في مؤسسات البيت والمدرسة والجامعة والمجتمع المحيط والكبير أمام وباء التفاهة الجارف.