د. عيد بن مسعود الجهني
بقي النفط منذ اكتشافه عام 1859 وتسعيره عام 1860 بعيداً إلى حد كبير عن مشهد السياسة الدولية، بل إن احتكاره كان في سلطة دولة واحدة، الولايات المتحدة الأمريكية، ويصدق عليها القول أنها حتى تأسيس الأوبك في أواخر ستينيات القرن المنصرم هي المنتجة والمصدرة، بل والمسعرة لسلعة النفط.
وخلال الحربين الكونيتين الأولى 1914 - 1918 والثانية 1939 - 1945 كان البترول الأمريكي اللاعب الرئيس في تلك الحربين المدمرتين، وإن كان في الحرب الثانية أكثر أثراً وأشد سطوة وبدونه كانت دول التحالف خاصة بريطانيا ستخسر الحرب ولذا هبت أمريكا لتزوِّد حلفاءها الأوربيين بــ(90) في المئة من احتياجاتهم البترولية.
ليس هذا فحسب فقد تبنت مشروع مارشال (برنامج الإصلاح الأوربي) European Recovery Program هدف ذلك البرنامج كان تقديم مساعدات اقتصادية على شكل قروض لبناء ما دمرته الحرب، وهذا يبرز أنه كان لأمريكا القدح المعلى في صناعة النفط وإيراداته التي ساعدت في كسب الحربين الفاشيتين ناهيك عن تقديم المساعدات الاقتصادية لإعادة الإعمار.
ولذا تأكد بعد تلك الحربين أنها القوة العظمى المهيمنة خاصة بعد تدمير الجزر اليابانية بأول قنابل نووية أمريكية لتعلن إخماد نيران الحرب البغيضة.
وقد استمرت السيطرة النفطية لأمريكا على أسعار النفط حتى بعد تأسيس الأوبك إلى حد كبير ليصبح ما بين 1.8 و2 دولار للبرميل، ولأن لكل أمر نهاية على مستوى الدول نشأةً وقوةً وسقوطاً، فهذا ينطبق على سلعة النفط، فتاريخه يقول إن شهر رمضان المبارك/ أكتوبر 1973 هو إعلان رفع النفط رأسه عالياً ليثور سعره المتدني لأكثر من قرن ليبلغ (4) دولارات، ثم (11) وما بين 1979 وعام 1981 ليدق باب الـ (40) دولاراً.
ذلك الحدث النفطي التاريخي لم يمر دون مواجهة قوية من الدول التي كانت تستهلك النفط بسعر أقل من سعر الماء الغزير فيها، فدق ناقوس الخطر عندها على الفور مهندس السياسة الأمريكية الخارجية في زمانه كيسنجر، تزامناً مع أول ثورة لأسعار النفط اقترح تنظيماً مناوئاً للأوبك وتمكنت أمريكا بقيادته إخراج مشروع المنظمة إلى الوجود، وجاء ميلادها لتصبح (المنظمة الدولية للطاقة) (IEA) لتصبح ممثلةً للدول الصناعية (OECD) لترى النور في الخامس عشر من شهر نوفمبر 1974م.
كان ولا يزال في مقدمة أهدافها مراقبة تغيّر أسعار النفط وتذبذباته وديناميكية الإمدادات التي تضمن استقرار سوق النفط الدولية، وحقيقة الأمر أن المنظمة في الأساس أنشأت من أجل محاربة الأوبك وسياساتها ومحاولة قطع الطريق عليها حتى لا تتحكم في سياسات سلعة النفط إنتاجاً وتصديراً وتسعيراً.
استمرت الوكالة في مشروعها للحد من سياسات الأوبك ففي عام 1977 أقر وزراؤها خفض حجم وارداتهم النفطية لتصبح (26) مليون ب/ي بحلول عام 1985، ليس هذا فحسب ففي الاجتماع الوزاري في باريس عام 1979 حمل المؤتمرون الأوبك مسؤولية أسعار النفط الخام.
ويسجّل التاريخ النفطي أن الوكالة عقدت مؤتمر قمة مهماً في العاصمة اليابانية طوكيو بتاريخ 28 يوليو 1979 حضره رؤساء دول الوكالة وقد ركَّزوا على تخفيض استيرادهم من النفط وتنظيم سوق النفط العالمية والعمل على تطوير مصادر الطاقة.
ويسجّل التاريخ النفطي أيضاً أن دول الوكالة تزيد دائماً من مخزونها الإستراتيجي من النفط خاصة عندما تتدنى أسعاره، وعلى سبيل المثال لا الحصر في الربع الثالث من عام 1998 بلغ حجم المخزون من البترول على ظهر السفن وعلى اليابسة في معظم دول الوكالة حوالي (6) بلايين برميل، بل إن دول (IEA) أوجدت ما يُسمى بسوق البترول المستقبلية، وهذا بدوره عامل مهم يؤثِّر على الأسعار صعوداً وهبوطاً. الدول المستهلكة صاحبة هذه الوكالة التي تنفذ خططها النفطية بدقة ومنها ترشيد الاستهلاك لم تتأخر يوماً عن استغلال مخزونها الإستراتيجي لدفع عجلة الأسعار إلى الأدنى، ففي حرب الخليج الثانية، حرب احتلال دولة الكويت الشقيقة، استغلت الإدارة الأمريكية المخزون الإستراتيجي، وبعد أن ارتفعت الأسعار إلى حوالي (29) دولاراً بسبب تلك الحرب تدنت إلى (22) دولاراً عندما استعمل سلاح المخزون الإستراتيجي، وهذا أمر طبيعي فضخ براميل أكثر في سوق أصلاً مشبعة ببراميل النفط وتبحث عن مشترين شرقاً وغرباً، هنا تتدنى الأسعار لكنها تعاود الارتفاع عندما يزول سبب استعمال سلاح المخزون.
وقد تكرر إشهار الولايات المتحدة الأمريكية سلاح المخزون الإستراتيجي، ولن يكون إعلان السيد بايدن الأخير الذي يمكن وصفه بأنه في شق منه لكسب رأي عام داخلي وسياسي خارجي بدليل أنه نسق مع كل من الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية ... إلخ.
الرئيس الأمريكي أعلن استخدام (50) مليون برميل من مخزون بلاده النفطي الإستراتيجي وزاد أن بلاده مستعدة لخطوات إضافية، ومن جانبها ستفرج المملكة المتحدة عن (1.5) مليون برميل وكوريا الجنوبية التي يبلغ حجم مخزونها الإستراتيجي (97) مليون برميل أكدت أنها ستقرر السحب من المخزون بعد المناقشة مع الإدارة الأمريكية. أما الهند فإنها ستفرج عن (5) ملايين برميل من احتياطياتها الإستراتيجية، ومن جانبها اليابان ستسحب (4.2) مليون برميل، أما الصين فضخت 22 مليون برميل من احتياطياتها الإستراتيجية للحد من ارتفاع الأسعار، وهي التي تراجعت وارداتها من النفط الخام لتبلغ (11) في المئة في أكتوبر مقارنة في سبتمبر، وهذا أدنى مستوى للصين في (39) شهراً عن (8.94) مليون برميل يومياً.
وإذا كانت الدول الصناعية تشهر سلاح المخزون الإستراتيجي وترشيد الإنفاق وتلوح بعصا بدائل الطاقة للضغط على الأوبك وحلفائها لتخفيض الأسعار فإن الأوبك والمتعاونين معها بيدهم أسلحة عديدة يتفقون عليها من خلال اجتماعاتهم ومؤتمراتهم الوزارية والتفاهمات بينهم بشأن استقرار سوق النفط الدولية.
لا شك أن الطلب العالمي على هذه السلعة النفيسة يواجه تحديات حقيقية بسبب هبوب عاصفة جديدة من الوباء، وتراجع في واردات الصين من النفط، ناهيك عن وجود فائض نفطي، ويأتي إعلان الإدارة الأمريكية باستعمال المخزون الإستراتيجي كسلاح ليكمل منظومة التحديات التي تواجه النفط إنتاجاً وتسعيراً.
السؤال المطروح هل كل تلك الأحداث المتسارعة تمثِّل ناقوس خطر على الأوبك وحلفائها؟
من له خبرة واسعة في تاريخ المنظمة التي كونت حلفاًً قوياً يدرك أن الحلف النفطي رغم ما يمر به الطلب على النفط من تدن، قادرون على إدارة الأزمة، متابعون لوضع سوق البترول الدولية إنتاجاً وتسعيراً.
ولدى الحلف خيارات عدة من ضمنها العمل على تعديل بعض الخطط ومنها الإبقاء على الإنتاج دون تغيير، وهذا عامل رئيسي دائماً ما تستعمله الأوبك وحلفاؤها للمحافظة على استقرار سوق النفط الدولية وتحقيق سعر عادل.
ولذا فإن الأوبك بأعضائها (13) والـ (10) حلفائها ورغم ما قيل وملأ الغمام قبل الاجتماع فإنهم في اجتماعهم عبر الفيديو الخميس 2 ديسمبر قرروا تثبيت سياسة الإنتاج بالإبقاء على زيادته بــ (400) ألف برميل يومياً في شهر يناير 2022 .
على الجانب الآخر ولأهمية سلعة النفط فقد قرَّر الحلف النفطي إبقاء اجتماعه مفتوحاً لمتابعة تطورات الجائحة والقيام على الفور باتخاذ أية تعديلات قد تكون ضرورية، لذا جاء اجتماع أوبك بلس في الرابع من هذا الشهر، حيث اتفقت المجموعة على إبقاء سياسة إنتاج النفط دون تغيير بزيادة الإنتاج بـ (400) ألف ب/ي في فبراير القادم ذلك الشهر الذي سيعقد اجتماع الأوبك وحلفائها في الثاني منه.
ورغم زيادة التحالف النفطي للإنتاج، فإن الأسعار بالنسبة لعقود خام برنت الآجلة سجَّلت حوالي 80 دولاراً للبرميل، والخام الأمريكي حوالي 77 دولاراً للبرميل.
ولا شك أن في التعاون والتنسيق المستمر بين المملكة وروسيا باعتبارهما أكبر منتجين ومصدرين للنفط في الحلف النفطي يضمن إلى حد كبير عدم إنتاج النفط وتصديره بأسلوب قد يغرق السوق البترولية الدولية.
وإذا أخضعنا الإعلان الأمريكي وانضمام دول أخرى إليه بالإفراج عن كميات قليلة من مخزونها النفطي ورغم أن أسعار البنزين بالفعل شهدت زيادة يتحمّلها المستهلك إلا أن الضرورة ليست قصوى للجوء إلى شهر سلاح المخزون الإستراتيجي.
لماذا؟ لأن السوق ستعدل مسيرتها، وإذا كان الفائض في السوق أكثر من مليونين فإنه قد يتضاعف في حالة زيادة الإنتاج، وتتأثر الأسعار نزولاً، وإذا كان إعلان الرئيس الأمريكي يعني له الكثير في خضم زيادة سعر البنزين في بلاده الأمر الذي يترك أثره على شعبية إدارته داخلياً وهو بحاجة إلى كل صوت ناخب أمريكي، كما أنه بحاجة لرفع شعار سياسته الخارجية.
وبتعريف مبسط أن اللجوء إلى السحب من المخزونات التي تمتلكها الدول ما هي إلا عبارة عن اقتراض وأمر مؤقت وتأثيره محدود وعمره قصير فهو (ليس حقل نفط)، ولذا فالدولة التي تقترض من مخزونها عليها أن تعيد ملء المخزونات مرة أخرى.
ويبقى القول أن الأوبك التي بلغت السن التقاعدي ولم تقبله لتبقى راسخة القدمين قادرة على إدارة السوق الدولية ومعها المتحالفون معها.
ومن ثم سيتغيّر إعلان ناقوس الخطر، ويبقى النفط يصول ويجول، وأحد أهم الأدلة القوية باجتماع الحلف الأخير الذي أبقى على سياسة الإنتاج دون تغيير.
والله ولي التوفيق،،،