د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
وجد نفسه - منذ زمن - منساقًا لمتابعة تفاصيل فكر وحياة الباحث المصريِّ الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي رحل في السابعة والستين من عمره 2010-1943م؛ فلديه معظمُ مؤلفاته، وقرأ أكثرَها، وقد صاحب أطروحاته ضجيجٌ لم يتوقف حتى اليوم، والحاكمُ في الحضور والغياب هو كمُّ القراءات والندوات والتعليقات التي ظلت تتداولُ آراءَه فتأتلف معها أو تختلفُ عنها.
** لا شكَّ أن حكمَ ردته والتفريقَ بينه وبين زوجته الدكتورة ابتهال يونس واضطرارَه إلى ترك جامعة القاهرة والاتجاه إلى التدريس في جامعاتٍ أجنبية، آخرُها «لايدن بهولندا» مؤثرٌ مهم في تواصل الاهتمام بقراءاته التي لم يعدَّها أبو زيد مشروعًا تجدر نسبتُه إليه، أما مسيرته فترتبطُ بعصاميتِه التي نقلته من عامل لاسلكي فقير في أسرة متواضعةٍ إلى مفكرٍ ذي وزنٍ ثري يسندُهُ حجاجٌ قويٌّ مرتكزٌ على لغةٍ سليمةٍ بعرضٍ متسقٍ، وتواضعٍ غيرِ مُدّعى، ودفاعٍ عن خصومه، وترفعٍ عن عدّ نفسه ضحيةً أو العزفِ على آلامه، إضافةً إلى رفضه التنازلَ عما رآه حقًا؛ فلم ينطق الشهادتين أمام المحكمة يقينًا منه بأنه لم يكفر، وكي لا يُفهمَ أنه اعترافٌ بفعلٍ لم يقرّ به، وفي أول محاضرةٍ جماهيريةٍ بعد صدور قرارات القضاء بسمل وحمدل وتشهد وصلَّى على الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.
** هذه بعض ملامح أبي زيد قد لا تسترُ خوضه في كتاب الله العظيم وكأنه كتابٌ أرضيٌّ يجوزُ تفكيكُه وتحليله بصفته منجزًا ثقافيًا، على أنه لم يزعمْ بشريتَه، ومؤمنٌ بقدسيته، ولعل لتأثرِه بالمعتزلة والصوفية - وإن لم يكن منهم- ما أباح لعقله أن ينحوَ بالتأويل منحىً تجاوزيًا، وبالاستبطان منحىً ظاهرًا، ونوى قراءة الخطاب بعد قراءة النص، وانتقل إلى رحمة الله قبل أن يُتمّه، ولم يبقَ منه ومن نظرياته سوى الجدل حولهما بدفاعٍ أو اندفاعٍ لا يستعيدان منطقَه، وندعو الله أن يعفوَ عنّا وعنه.
** يجيءُ هذا الاستدعاء وسط صخبٍ مشابهٍ ينقلُ المقدس إلى مدار التداول العامي والتناول المبتسر، كما جرى ويجري مع الحديث الشريف والروايات التأريخية المتواترة، وكأنَّ من يئسوا من إتيان ثقافة الأمة عبر قرآنها التفُّوا عليها من نوافذ السنة الشريفة، وعبر إطلاق رواياتٍ واهيةٍ حول سِير أعلام الأمة في زمن «ما بعد الأمة» - وفق تعبير الدكتور طه عبدالرحمن - فلم يسلم من الافتئات أحدٌ مهما علا قدرُه، مع السعي الحثيث لإعادة كتابة الأحاديث النبوية، حتى طالب أحدُهم بوضع صحيح جديد يسمى «صحيح الأزهر» يلغي «صحيح البخاري»، وقد تبرأَ الأزهر الشريفُ بلسان الشيخ عبدالله رشدي من مثل هذا التوجه.
** لعله هوسُ الحضور والرغبةُ في الانتشار إن أحسنَّا الظن، أو هو الهوى المبيّتُ خلف ستار العلميةِ والتطور، وإذ لم يتعلموا من دروسٍ سبقتهم فإن ما يستقبلونه مزيدٌ من التيهِ العلميّ، والخيباتِ المجتمعية.
** المُقدَّسُ لا يُدنّس.