د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
تُخُرِّمَ الصالحونَ المُقتَدى بهمُ
وَقامَ منهُم مقامَ المُبتَدا الخَبَرُ
فَلَستَ تَسمَعُ إِلّا كان ثمَّ مَضى
وَيَلحَقُ الفارِطُ الباقي كما غَبَروا
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
وا حرَّ قلباه من فَقْدِ العلماء! وموت ورثة الأنبياء, إن ذهابهم لموجع, وموتهم قاضٌ للمضجع, وما زال الناس في نقص, والنقص قد يكون عاماً, وهو بلاء وابتلاء, قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ (سورة البقرة), فإِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
أكتب هذه الأحرف بعد وفاة القدوة والعالم العامل, والشيخ العابد, والنسابة الفرضي, إمام القضاء ورمزه في وقته, وعالم القضاة وشيخهم في زمنه, الفصيح لساناً, والثابت جناناً, والأب حناناً, والمهاب جناباً, والراسخ علماً, والمُقدَّم حقاً, وأحد الأعلام صدقاً, من عزَّ مثيله, وقلَّ نظيره, فاض عقلاً ومعرفة واتزاناً, وفاق غيره عزة وشموخاً ومجداً, سماحة شيخنا العلامة صالح بن محمد اللحيدان رحمه الله, وغفر له, ورفع نُزُله ومنزلته في الجنة, وأخلف علينا خيراً, كان حامل راية القضاء بِكَلِّها, وفارس ميادين الأقضية كُلِّها, اشتهر بالعلم الغزير, والفضل الكثير، والذكاء المفرط، وتصدَّى للإفادة، وجلس للتعليم وبثِّ السنة, شاع ذكرُه في الأقطار، واشتهر اسمه في الأمصار، أحسبه العالم المبارك أينما حلَّ, والشيخ المُنْتفَع به أينما نزل, درَّس في الحل والحرم, وألقى الكلمات, وعقد الندوات, وأقام المحاضرات, وأجاب عن الفتاوى والإشكالات, وله في جانب الفتوى شأن كبير, فهو من أوائل علمائنا الذين خرجوا في التلفاز للفتوى, وأقول: لو جُمِعتْ فتاواه رحمه الله لكانت في آلاف الصفحات, فكيف لو ضُمَّتْ مع محاضراته وشروحه وتعليقاته؟ حقيقة إنه جهد عظيم لا يقوم به إلا نوادر الرجال, هذا كله مع ثقل أعباء القضاء ومجلسه, وتكاثر الأشغال العظيمة وتنوعها عليه, ومع تلك المهام, وعظيم ما هو فيه من مقام, حوى على دينٍ متين, وعبادة ظاهرة, وتواضع جم, وخلطة للناس نافعة, مع صبر عليهم واحتمال لجاهلهم، وإحسانٍ كثير وكبير إلى المساكين والفقراء وأصحاب الحاجة, واتباع للسنة في جميع أحواله فيما أحسبه والله حسيبه، مع ما جعله الله من كونه مستودع الرأي والمشورة للملوك والعلماء والأمراء والوزراء فمن دونهم, فهو محل الثقة عند الجميع, فرأيه مقدم, واستشارته مغنم, كم دفع الله برأيه من فتن, وحقق من مصالح, ذكر لي مرة أنه لم يُحجب عن باب ملك منذ عهد الملك فيصل رحمه الله إلى اللحظة التي حدثني فيها, وأظنه قال: إلا مرة.
كان رحمه الله قدوة في عمله والقيام به إلى أن ترك رئاسة المجلس الأعلى للقضاء, فقد ذكر رحمه الله أنه لم يكن يتمتع بإجازة طيلة حياته العملية الماضية إلا مرة أخذ شهراً فقط, كما لم يكن يتمتع بإجازات خاصة، بل قال رحمه الله: من فضل الله علي وعلى العمل أنني لم أتغيب عن العمل لمرض إلا مرتين.
بل رأيته رحمه الله أكثر من مرة تَعْرضُ له بعض الأمراض التي لو نزلتْ بغيره لبادر بأخذ إجازة ونقاهة, أما هو فكان يتجلد ويذهب إلى العمل.
عَلى قَدرِ أَهلِ العَزمِ تَأتي العَزائِمُ
وَتَأتي عَلى قَدرِ الكِرامِ المَكارِمُ
وَتَعظُمُ في عَينِ الصَغيرِ صِغارُها
وَتَصغُرُ في عَينِ العَظيمِ العَظائِمُ
مكثتُ ما يقارب أربع سنين أتردد على المجلس الأعلى للقضاء طالباً الإعفاء من منصب القضاء, وكنتُ آتي إليه الساعة السابعة والنصف في غالب المرات فأجد سماحته في مكتبه, وربما أتيتُ قبل هذا الوقت فإما أجده في مكتبه وإلا أدركته وهو ينزل من سيارته, فيخرج مفتاح مكتبه من جيبه ليفتح الباب بيده, وأذكر أول مرة دخلتُ عليه في المكتب استغربتُ كثيراً من كثرة المعاملات, وبعضها من كثرة أوراقها ومستنداتها قد وضعت في أكياس على مكتبه حتى ربما غطَّت ما وراءها, سوى تلك الأكياس الموضوعة بجوار الطاولة!
كنت أتأمل حينها متى يقرأ كتب العلم؟ متى يراجعها؟ كيف يلقي المحاضرات والدروس؟ كيف يجد الوقت ومتى؟ أسئلة دارت في الذهن تدلُّك على شاهد من عشرات الشواهد والأدلة أمام عينيك أن الإعانة والبركة والتوفيق والتسديد من الله وحده, فاللهم لا تحرمنا فضلك.
كان الشيخ رحمه الله مع الأذان أو قبله يخرج من مكتبه متوجهاً إلى المسجد, لا يقول: بقيت معاملة أوقعها, أو ورقة أقرؤها, لا! بل الصلاة قد نادى مناديها, فيترك مكتبه متوجهاً إلى المسجد, ومنذ عرفتُ سماحته من أكثر من عشرين سنة وهذه عادته, قلَّ أن يؤذن إلا وهو في مصلاه خلف الإمام بل إني أقف أحياناً خارج المسجد, فإن لم أره من نافذة المسجد بعد الأذان في مكانه المعهود عرفت أنه غير موجود.
كان قلبه معلقاً بالمساجد يحمل نفسه ويلزم جسده المنهك بالمرض على شهود صلاة الجماعة في المسجد! ما استطاع إلى ذلك سبيلاً, بل يبادر إليها مع الأذان, فكم مرة رأيته بين بعض أبنائه جزاهم الله خيرًا يهادى حتى يقام في محله من الصف قبل أن يجلس بعد ذلك على العربة, عنده تجلى لي قول أبي الطيب:
وإذَا كانَتِ النُّفُوسُ كِبَارَاً
تَعِبَتْ في مُرَادِهَا الأجْسَامُ
وقول الرضي:
ولكل جسم في النحول بلية
وبلاء جسمي من تفاوت همتي
قال ابن الجوزي رحمه الله: (مَا ابْتُلِيَ الإنسان قَطُّ بأعظمَ من علو همته. فإنَّ مَنْ علت همتُهُ يختار المعالي).
لقد كان شيخنا رحمه الله رَجُلاً رِجْلُهُ في الثَرى... وَهامَةُ هِمَّتِهِ في الثُرَيَّا.
ومنذ عرفت سماحته رحمه الله وهو يصلي أربع ركعات بسلامين بعد صلاة العشاء حتى أثقله المرض جداً, فلم أسأله عنها؛ لأني لما سألتُ شيخنا العلامة عبدالله بن غديان عن كثرة صلاته في مكتبه أحياناً بعد صلاة الظهر, قال: هذه بيني وبين ربي! فعرفتُ أني لم أحسن عرض السؤال؛ إذ أردتُ منه دلالتي على فضلها أو تنبيه منه على شيء حولها, وأنا أقول الآن: ما أغفلنا -والله- عن العبادة بين الظهر والعصر! خاصة نافلة الصلاة, فقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يحيي ما بين الظهر والعصر, بل جاء عن بعض السلف تشبيه الصلاة بين الظهر والعصر بصلاة الليل.
المهم أني لما رأيتُ شيخنا يصلي أربع ركعات بعد العشاء لم أتعجَّل بسؤاله كما فعلتُ مع شيخنا الغديان رحمهما الله بل بحثتُ فوجدت خيراً عظيماً كنتُ غافلاً عنه! فقد جاء عن أمِّنا عائشة وابن مسعود وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم وعن غيرهم أنه من صلى أربعاً بعد العشاء كنَّ كَقَدْرِهِنَّ من ليلة القدر.
وكان سماحته محافظاً على قيام الليل, فقد يسر الله لي عام 1427 أن أحج مع سماحته, فكنتُ أتنقل بين المشاعر في ركبه, وأبيتُ في مخيمه, ومما أذكره هنا أننا وصلنا إلى مزدلفة في حدود الساعة الثامنة, ووجَّه سماحتُه ابنَه الزميل الكريم الدكتور الشيخ فهد أن يُؤذن, وقال له ممازِحاً: لا تقل «الصلاة خير من النوم»! فإنك تؤذن للمغرب, وكان من توقير الدكتور فهد وتقديره أنه لا يقيم الصلاة حتى يأذن له سماحة والده مع أن الجميع بمن فيهم الشيخ قد اصطفوا للصلاة, والشيخ أمام المصلين وجرت العادة أن تقام الصلاة, ومع ذلك لم يقمها حتى أَذِنَ له والده, وبعد الصلاة قام الشيخ يصلي السنة الراتبة, ثم أُتي بالقهوة, ثم العَشاء, وبعده جلس كل واحد مِنَّا على فراشه وحوله من حوله من أصحابه, ثم رأيت الشيخ بعد مدة قائماً يصلي فصلى قرابة إحدى عشرة ركعة ثم خلد إلى النوم على جنبه الأيمن, وقبيل الفجر استيقظتُ, فإذا بأكثر الإخوة ما زالوا نائمين, ورأيتُ الشيخ لتوه مستيقظاً, ثم ذهب إلى دورات المياه بمشعر مزدلفة التي يشترك فيها الحجاج, وكان الناس قد توافدوا عليها ولمَّا يكثروا بعد، وكنتُ أرقب سماحته ولم يرني, فكان يضع طرف إحرامه على فيه, وكان ينتظر دوره في دخول دورات المياه! وكان قبله حاج من بلاد الهند واصطف خلفه حاج من شرق آسيا, منظر أذهلني, فهذا الذي بينهما من أكبر علماء العصر, وله المكانة العالية والرتبة الرفيعة, وسيكون بعد ساعات من الآن إن مد الله في الأعمار عن يسار ملك من أعظم الملوك والحكام في زمانه «خادم الحرمين الشريفين»؛ لتهنئته بعيد الأضحى -رحم الله ولاة أمرنا وجزاهم عن المسلمين خير الجزاء-, وكذلك فعل سماحته في مكان الوضوء فقد قام ينتظر دوره! وهو رئيس المجلس الأعلى للقضاء, ومن أكبر وأجلِّ العلماء في زمانه, ولو أراد أن يكون له مكان خاص لاستطاع بما أُوتي من منصب وجاه عظيمين, لكن هذه هي سمة علماء السنة, وكما قال أحد أئمة السلف حين زوحم على الماء مع الناس: «لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها».
قال الإمام الشافعي رحمه الله: «أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدْرَه، وأكثرهم فضلاً من لا يرى فضله».
وكان زين العابدين علي بن الحسين رحمه الله إذا سار على بغلته في سِكَكِ المدينة لم يقل لأحد: الطريق، وكان يقول: الطريق مشترك ليس لي أن أُنَحِّيَ عنه أحداً! وهو من هو في الرتبة والمنزلة حتى شَرُفَ الفرزدق بمدحه في القصيدة المشهورة:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ
وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ
هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
ذكَّرني هذا الأثر عن زين العابدين بما فعله أحد الشباب إذ كان يطوف بالكعبة, فرأى سماحةَ الشيخ صالح اللحيدان رحمه الله خلفه في الطواف, فأفسح الشاب المجال وقال: تفضل يا شيخ, فنظر إليه الشيخ قائلاً: كلنا يا ولدي في هذا المقام والمكان على رتبة واحدة تقبل الله منا جميعاً.
خرجتُ معه مرة من المجلس الأعلى للقضاء إلى صلاة الظهر وبعد الصلاة والخروج من المسجد قرَّب أحدهم الحذاء إليه, فنظر الشيخ إليه نظر الغضبان, وقال له: لا تفعلها مرة أخرى.
عوداً على بدء رجع الشيخ بعد أن توضأ إلى مكاننا في مزدلفة ثم بعد ذلك صلى بنا صلاة الفجر وبعدها بقليل وقبل الانصراف من مكان صلاتنا قال رحمه الله: أسأل الله أن لا يجعل هذه الفريضة في هذا اليوم آخر العهد بهذا المكان, وأن يعيدنا إلى هذه الأماكن ونحن في صحة وإيمان وسلامة, وبلادنا في أمن ورغد عيش.
كان رحمه الله من أصبر العلماء على التدريس بالحرم كم رأيته على كرسيه في صحن الكعبة بجوار بئر زمزم يعلِّم الناس ويجيب عن أسئلتهم حتى غدا نجم الحرم الأول في التدريس كما قاله الشيخ سعد الحصين رحمه الله, وكان يطوف سبعاً قبل أذان المغرب ثم يتوجه إلى كرسي التدريس فيصله قبل الأذان.
وفي العشر الأواخر من رمضان كان يصلي التراويح ثم يلقي الدرس لمدة ساعة قد تزيد مع الإجابة عن الأسئلة ثم يصلي صلاة القيام ثم يلقي درساً بعد الفجر وهو قد تجاوز السبعين من عمره رحمه الله, كنتُ أتعجب كيف يصبر هذا الصبر العظيم؟
بل لا أنسى مرة أنه في العشر الأواخر ألقى درساً بعد التراويح, ثم بعد صلاة الفجر استمر في الإلقاء حتى قطعه قول المؤذن: صلاة الاستسقاء رحمكم الله, جَلَدٌ عجيب, وصبر منقطع النظير, كل ذلك لنفع الناس وتبصيرهم في دينهم.
كم من مرة رأيته يضع رأسه على لاقط الصوت وربما أغمض عينه حتى ينتهي القارئ من إلقاء السؤال, فيرفع شيخنا رأسه ويجيب عن السؤال, وربما طُرِحَ سؤال فيه ما فيه, فيقول الشيخ -الذي هو بصير بالأكَمَة وما وراءها-: هذا سؤال حق أُريد به باطل! فلا يجيب عنه, ويطلب السؤال الذي بعده.
كَلِماتُهُ قُضُبٌ وهنَّ فَواصِلُ
كلُّ الضَّرائِبِ تحتُهنَّ مَفاصِلُ
وقد أخبر عن نفسه رحمه الله أنه من عام 1380هـ وهو مكلف بالفتيا في الحرم في موسم الحج، وقد كلَّفه سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله وعشرين آخرين من أهل العلم للتدريس في الحرم موسم الحج بأكمله, واستمر خمسين سنة في التدريس في موسم الحج, وفي عام 1404هـ كُلِّف بدروس الحرم في رمضان وما بعده والحج.
وقد كنتُ أحرص أن أكون قريباً منه في درس الحرم, فمرة كنتُ بقرب كرسيه, وصليتُ بجواره, وكان ذلك في عطلة الصيف, وكانت أمامه مَهفَّة, فكان يهف بها الهواء على نفسه ثم يهف بها على من يمينه وعلى من يساره قبل صلاة المغرب وبعدها, وبعد صلاة العشاء, وأذكر أن بجواري في إحدى المرات رجلاً بديناً سميناً, فكان الشيخ إذا حرَّك المهفة فوصل جهة هذا الرجل أطال الهفَّ قليلاً, فأقول في نفسي: يا الله ما أعظم هذا الشيخ! ثم أدعو الله أن يحفظه ويمتعنا بوجوده, وها أنا أدعو الله أن يبرد مضجعه, ويرفع منزلته, فاللهم لطفاً به.
لم يَرحَلوا عن حِمَى أرضٍ إذا نزَلوا
إلاّ وأبقَوْا بِها مِن جودِهم أثَرَا
تَبقَى صَنائعُهم في الأرضِ بعدَهمُ
والغَيثُ إن سارَ أبقَى بعدَهُ الزَّهَرَا
كان رحمه الله كثير الصدقة لا أحصي عدد ما رأيته يعطي السائلين عند باب المسجد, وكلما رآهم الشيخ أخرج من جيبه نقوداً غالباً من فئات الخمسين والمائة ويضعها بيده في يد السائل, فإن لم يكن معه شيء أخذ من ابنه الذي بجواره, ولم أره مرة واحدة تجاوز سائلاً فلم يعطه شيئاً.
بل مرة أحد الإخوة أعرفه كان واقفاً عند باب المسجد ينتظر الشيخ ليسأله عن شيء وكان بجواره بعض السائلين فلما رآهم الشيخ أخرج النقود وصار يوزعها بينهم حتى وصل إلى الأخ ومدَّ له الشيخ مبلغاً من المال! فارتبك الأخ, فقال: لا يا شيخ أنا سائل, فقال الشيخ: سائل علم أم سائل مال؟ فقال: بل علم. فانفرد به الشيخ حتى أجاب الأخ عن أسئلته.
ومما أذكره أن من رُشِّح للقضاء ربما تمر عليه فترة طويلة حتى يصدر قرار تعيينه, وربما ألحق التأخر في صدور القرار ببعض المشايخ شيئاً من لوازم الدنيا بل ربما عَضَّهم الدهرُ بنابه, فكان سماحته يكتب لمن جاءه مخبراً عن حاله مبلغاً مجزياً من حسابه الخاص, معونة منه لأبنائه المرشحين للقضاء.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعَتْنا يا جرير المجامعُ
كان رحمه الله ليِّن العريكة، محْتمِلاً لجهل الجاهل, سهل الجانب مع ما أعطاه الله من هيبة ضاربة, وحزم ظاهر, كم رأيته في المسجد وفي الشارع الذي بجوار بيته يقف حتى ينتهي المستفتي من سؤاله كبيراً كان السائل أو صغيراً, بل لا أنسى مرة وهو يشرح لنا كتاب العدة في شرح العمدة دخل طفل المسجد من الباب الشمالي وعمره يقارب ستاً من السنين فجاء إلى جوار سماحته من جهة اليسار مادًّا يده فلم ينتبه له الشيخ؛ إذ الصبي ليس في محل الرؤية من الشيخ وكان سماحته مستغرقاً في الشرح والتعليق, فلم يصبر الصبي فتقدم قليلاً وضرب بيده على ذراع الشيخ فالتفت الشيخ إليه, فمدَّ الصبي يده إلى الشيخ مسلِّماً فصافحه الشيخ والابتسامة تعلو محياه ثم أكمل الدرس رحمه الله.
كان رحمه الله راسخ المبدأ، صادق العزم, حسن السيرة, رفيع الهمة, كامل المروءة, لما أصابت مصيبة الموت أحد جيرانه عزَّاهم في ميتهم, وقال لهم: سيأتيكم الطعام, وجاءهم الطعام بما كفى الرجال والنساء وزيادة.
كان رحمه الله واسع الاطلاع عميق العلم والمعرفة, يحفظ من أشعار العرب وقصصهم ما لم أسمعه من غيره.
أذكر مرة في مجلسه بالمنزل جاء ذكر المُعَزِّبة يعنون بها الزوجة, فقال الشيخ: بعضهم يظن أن لفظة (المعزبة) التي تطلق على الزوجة لفظة حديثة مع أن الشاعر زهير بن جناب الكلبي سيد قضاعة وشاعرها قبل الإسلام يقول:
ألا يا لقومي لا أرى النَّجم طالعاً
ولا الشمس إلا حاجبي بيميني
مُعَزِّبَتي عند القفا بعمودها
يكون نكيري أن أقولَ ذريني
كان شيخنا رحمه الله من أجمل علمائنا الكبار استشهاداً بالشعر في موضعه, وكان يذكر أبيات شعر لم أسمع أحسن منه في توظيفها, وبعض تلك الأبيات لم أعرفها من قبل, فمن تلك الأبيات؛ قول أبي العيناء:
إذا رَضِيَتْ عنّي كِرامُ عَشيرَتي
فلا زالَ غَضْباناً عليَّ لِئامُها
وكذا من جميل استشهاده رحمه الله:
أَبْصِر لِرِجْلِكَ قَبْلَ الخَطْوِ مَوْضِعَهَا
فَمَن عَلَا زَلَقًا عَنْ غِرَّةٍ زَلَجَا
وأذكر لما تطاول بعض الأوغاد على شريعة الإسلام سئل الشيخ في إحدى المحاضرات عن ذلك, فقال رحمه الله في نهاية الإجابة: وأسأل الله أن يحقق فيهم قول الشاعر:
ضَفَادِعُ فِي ظَلْمَاءِ لَيْلٍ تَجَاوَبَتْ
فَدَلَّ عَلَيْهَا صَوْتُهَا حَيَّةَ الْبَحْرِ
إلى غير ذلك من الأبيات التي لم أسمع من يتمثل بها ويحسن وضعها في محلها.
ولما ألقى أحد المشايخ كلمة عند خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله وجعله ذخراً للإسلام وأهله عام 1436هـ ذكر قول الشاعر:
أُولِئكَ قَوْمٌ إِنْ بَنَوْا أَحْسَنُوا الْبِنَى
وإِنْ عَاهَدُوا أَوْفَوْا وإِنْ عَقَدُوا شَدُّوا
فلما سلَّم الملقي بعد ذلك على الشيخ صالح اللحيدان شكره الشيخ على حسن كلمته وفصاحته فيها, ثم قال له: أَحْسَنُوا الْبُنَى, منبهاً إلى أن هذا هو الأصح إن لم يكن هو الصحيح.
وأذكر مرة كنتُ نازلاً من درج الدور الأول الذي فيه قسم شؤون القضاة في مجلس القضاء الأعلى بالمبنى القديم «وهو عبارة عن قصر قد بُني منذ سنين في حي المعذر», وصادفتُ سماحته خارجاً بمعاملات كان يحملها بيده من مكتب زميله وصاحبه وصديقه الشيخ محمد بن سليمان البدر رحمهما الله, إذ كنتُ أتردد على المجلس لطلب الإعفاء من القضاء فلما رآني وقف جزاه الله خيراً حتى وصلته -فجاء مدير مكتبه وأخذ المعاملات- فسلمت على سماحته وقبلَّت رأسه, وقلت: يا سماحة شيخنا أعفني عفا الله عنك, فقال: عليك بقول أبي فراس:
صبورٌ على طيِ الزمانِ ونشرهِ
وإنْ ظهرتْ للدهرِ فيَّ ندوبُ
ثم قال: يا شيخ محمد اعْمَلْ بقول الشافعي رحمه الله: وكن رجلًا على الأهوال جلدًا, فقلت: أبشر شيخنا لكن في غير القضاء.
كان يكرر بعض الأبيات في اللقاءات لما فيها من النصح خاصة ما يتعلق بحفظ اللسان, وهي:
إذا رمْتَ أن تحيا سليماً من الأذى
ودينك موفور وعرضك صين
لسانك لا تذكر به عورة امرئ
فكلك عورات وللناس ألسُن
وعيناك إن أبدتْ إليك معايباً
فدعها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى
ودافع ولكن بالتي هي أحسن
وكان إذا انتهى من بعض المحاضرات قال متواضعاً: لعلكم لم تسمعوا جديداً, وإنما هو تأكيد على ما تعرفونه, وهل العلم إلا ما تواطأت عليه الألسن, وكما قال الأول:
ما أرانا نقول إلا معاراً
أو معاداً من قولنا مكروراً
كان رحمه الله حريصاً على السنة عملاً وتطبيقاً وتعليماً ونشراً, ومما حدثني به رحمه الله أنه شرح الكتب الستة وموطأ الإمام مالك, فسألته: أين شرحتم ذلك شيخنا؟ فقال: في مسجد الإمام عبدالرحمن الفيصل بشارع الوزير حين كنتُ إمام المسجد, وقد كان الشرح من عام 1381 إلى 1395هـ, وشرحتُ مسند الإمام أحمد بترتيب الساعاتي بعد انتقالي إلى حي الروضة, فقلت: هل تقرؤون سند الحديث؟ قال: نعم أقرأ السند وأعلق عليه تعليقاً خفيفاً, وأتكلم عن معاني الحديث.
ثم أهدى إليَّ رحمه الله كتاب التعليقات السلفية على سنن النسائي لأبي الطيب محمد عطاء الله الفوجياني, وكان الشيخ قد كتب له تقديماً, وذكر الشيخ في تقديمه أنه اقتنى الكتاب عام 1381هـ, وأنه انتفع به وقت شرحه لسنن النسائي, وتمنى لو يطبع طباعة جيدة, فطبع بعد ذلك بتقديمه رحمه الله.
ومن وصاياه رحمه الله قوله: (وإني بهذه المناسبة أحثُّ طلاب العلم على العناية بالحديث وتفهم معانيه ومراجعة شروحه وتتبع ألفاظه من مختلف رواياته، وعدم الاكتفاء والاجتزاء بالمختصرات ما أمكن الوصول إلى المطولات لما في مطولات الشروح من البسط والوضوح وإبراز فضل العلم وإظهار مزاياه والدلالة على تفاوت أصنافه في الفضل؛ فإن فضل العلم تبع فضل المعلوم، وأفضل العلوم علم القرآن والسنة، فحري بطالب العلم غير المتخصص أن يكون له نصيب من ذلك، فضلًا عن المتخصص بهذه العلوم، إذ يُطلب منه بذل الوسع والتقصي بما يمكن، لا سيما وقد يسر الله سبحانه أسباب انتشال المدفون من أمهات الكتب ومطولات الشروح).
كان رحمه الله أمَّاراً بالمعروف, نهَّاءً عن المنكر, قوَّالاً للحق, محذِّراً من البدع وأهلها, ومن الانحلال والعلمنة ودعاتها, لا تأخذه في الله لومة لائم, وكان يداري ولا يداهن, يعرف الفضل لأهله, ويقدر الناس, ويُنْزِل كلاً منزلته, صاحب مقامات مشهورة, ووقفات ظاهرة, وعزمات نافعة, أعطاه الله الشجاعة وقوة القلب.
هَبَّاطُ أوْدِيَةٍ حَمَّالُ ألْوِيَةٍ
شَهَّادُ أَنْدِيَةٍ سِرْحَانُ فِتْيَانِ
قال المقولة المشهورة: (لي في القضاء وهيئة كبار العلماء أكثر من ثلاثين سنة, والله ما أمرنا في يوم أن نفتي بما يوافق هوى أحد, وإنما نفتي بما نراه الحق).
جمع رحمه الله: العلم, والدين, والشجاعة, والكرم, وهذه أمهات الفضائل كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله.
كان رحمه الله رئيس وفدٍ بعضوية كل من فضيلة الشيخ أبي بكر محمود جومي كبير قضاة نيجيريا وعضو الرابطة، وفضيلة الشيخ أحمد الحماني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر وعضو الرابطة، وفضيلة الشيخ علي مختار الأمين العام المساعد للمجلس الأعلى العالمي للمساجد لمناصحة العقيد معمر القذافي حول ما انتشر عنه من إنكار السنة النبوية في أن تكون مصدراً من مصادر التشريع الإسلامي وكان ذلك في شهر صفر 1399هـ.
«يتبع»
** **
- أستاذ الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء