د. محمد بن إبراهيم الملحم
التعلّم مدى الحياة كمبدأ محوري تدور حوله أنشطة التربية والتعليم في دولة ما يمكن أن يكون له أثر مهم وإستراتيجي على اقتصاد تلك البلد، بل هو لا شك سيؤثِّر ويضع بصمة منظورة، فالاقتصاد الذي يقوم على المهارات والمعارف التي يمتلكها أفراد المجتمع (اقتصاد المعرفة) هو ذلك الذي يزدهر بعيداً عن الموارد الطبيعية مما يستخرج من الأرض من معادن أو زراعة أو ما يذخر به برها أو بحرها من الكائنات الاستهلاكية، وهو يعمل إنتاجياً عندما تُصاغ المهارات والمعارف المقدمة للمتعلّم في إطار يتناسب ومتطلبات الإنتاج الذي سيعتمد عليه اقتصاد ذلك البلد، سواء كان إنتاجاً تقنياً أو أدائياً والتعليم الرسمي النمطي يستهدف أن يصل إلى هذه النتيجة ليخدم المجتمع اقتصادياً من هذه الناحية، وأفضل تعليم هو ذلك الذي ينجح في تفصيل مناهجه لتخدم متطلبات التنمية وتتناغم معها، ففي المجتمعات الصناعية تزدهر مناهج للحصول على فنيين وتقنيين يخدمون مصانع الإنتاج وفي المجتمعات الزراعية ستزدهر المناهج المهتمة بالجانب الزراعي، أو لنقل بلغة اليوم تقنيات الزراعة، وكذلك في المجتمعات المعتمدة على الخدمات التجارية ستهتم مناهجها بما يخدم مهارات هذا الجانب، ولكن التعليم يكون في أفضل حالاته عندما يتجاوز هذه المهارات الأولية المفصّلة على المقاس المطلوب ليؤسس شخصية المتعلم البناءة للاقتصاد بمداخل إبداعية قد لا تكون في دائرة مخططي الاقتصاد أنفسهم، وقد تتجاوز مجال الاقتصاد الحالي للبلد إلى مجالات جديدة تدخله في عالم جديد وإنتاجية من نوع جديد، وهذا المدخل «الاحتمالي» الذي تصنعه ثقافة ومهارات التعلّم مدى الحياة هو من أقوى المداخل لتأسيس الإبداع في نسيج المجتمع ودمجه في قيمه ووعيه اليومي.
المتعلّم مدى الحياة هو من يحقق هذه المعادلة بدون شك، فهو عنصر بناء متزامن مع تطورات العالم الخارجي ومتماه مع وتيرة التغيير ويستطيع تجاوز المعوقات، والجميل أكثر أنه ناشر للمعرفة والمهارات، ذلك أن من حصل المهارات من خلال الأسلوب التقليدي من خلال آخرين يلقنونه ويعلمونه فإنه يتوقف عند الحد الذي اكتسبه منهم ليصبح ذلك ممثلاً لـ «كلّ» ما يملكه ولأنه يدرك هذه الحقيقة التي تقصر فيها ذاته عن إمكانية تحقيق أكثر من ذلك بعد أن تخرج وأصبح خارج المؤسسة التي أكسبته مهاراته ومعارفه فإنه نادراً ما يجود بنشر معرفته وعلمه ومهاراته وقد يفضل الانكفاء عليها، خلافاً للشخصية المتعلمة مدى الحياة، فسيكولوجيتها تدعو إلى النشر والتعليم لأن سلوكها في التعلّم الذاتي يجلب لها الجديد باستمرار ويراكم المعرفة والخبرة الأمر الذي يحثه باستمرار إلى بذل ذلك كله. وهذه السيكولوجية التي يصنعها التعلّم مدى الحياة كفيلة بتدشين المجتمع بأكمله بسرعة كبيرة نحو «مجتمع المعرفة» والذي هو أساس اقتصاد المعرفة، ومتى ما انتشرت المعرفة وأصبح نشرها عدوى حميدة مستقرة بين أفراد المجتمع فإن المجتمع يتطلع بعدئذ إلى مستويات أعلى من المعرفة ليصل إلى الإبداع بسهولة ويسر وفي أكثر من جانب، وهذا هو أهم رافد من روافد اقتصاد المعرفة، والذي يقوم على تجدد موارد الاقتصاد لذلك البلد سواء في أنواعها الجديدة أو في مداها وتوسعها في نفس النوع أو المجال الذي يقوم عليه اقتصادها في الأصل. «النجاح» في تقديم الخدمة التربوية على أساس منهج التعلّم مدى الحياة هو ما يخلق ذلك كله.