اختار الله - جل وعلا - أخي الأكبر والوالد ناصر بن عثمان الصالح (أبا بدر) وتوفاه صباح يوم الأحد السادس من جمادى الآخرة الموافق للتاسع من يناير من العام 2022م، بدأت أركان صحته - رحمه الله - تتهاوى منذ ما يزيد على العامين، وهو صابر وروحه الأخوية الكبيرة ما تهاوت بل زادت ونمت؛ تراها في نظراته الحانية وابتساماته الواهنة ثم في تعليقاته اللطيفة - رحمه الله - وفي الأشهر القليلة الماضية صار مكثه في المستشفى يساوي مكثه في منزله العامر في الدمام إن لم يكن يزد عليه.
توفي - رحمه الله - محاطاً بزوج موقرة وفية صبورة (أم بدر - نورة بنت محمد المطلق)، وأبناء نجباء بارون الاستاذ بدر بن ناصر والمهندس زياد بن ناصر) وأسرة ممتدة من الإخوة والأخوات تفيض قلوبهم بالمحبة والوفاء الذي تشربوه من ينبوع أسرة ممتدة كريمة.
ولكن وقد غيَّب الموت أخي ناصر - رحمه الله - عن عالم الممر إلى عالم المستقر، أجدني وأنا أقل المؤهلين للكتابة عنه أو حتى رثائه لقريب الصلة به، وعميق الرابطة العاطفية معه، من أكثر من يفترض أن يكتب عنه وعظيم فضله عليَّ وعلى الكثير ممن هم حوله، وإعجابي بسيرته وفكره ونجاحه، ولو سطور قليلة توجز الكثير وتشير إلى ما هو أكثر. ولا شك لدي أن بعض أصدقائه وزملائه لديهم الكثير مما يمكن أن يقولوه، وكم يفرحني أن أبناءه الاستاذ بدر والمهندس زياد ينوون تطوير بعض المقالات عن الفقيد لما قد يشكل كتاباً يطلع الناس فيه على قصة نجاح وطنية وسيرة متميزة.
بين كاتب هذه السطور وأخيه الفقيد الغالي سنين عديدة وإخوة وأخوات عدة ولذلك لم أعرفه إلا أخاً كبيراً وأشبه بالوالد, ومسؤولاً ذا أهمية مشغولاً بمهام كثيرة وهموم كبيرة في دوائره الوظيفية المختلفة، وهنا أود أن أركز النظر وأبلور الفحوى وأظهر المعنى. الأخ ناصر - رحمه الله - من جيل عاش عبر مراحل من تاريخ بلادنا شديدة التحولات وسريعة التطورات من البساطة والبدائية إلى مراحل النمو والتنمية العظيمة في ظل دولة مستقرة تنظر للمستقبل نظرة طموحة.
تقلب الفقيد في هذه الفترة وأثنائها في وظائف مختلفة كلها تصب في مسار الخدمة العامة بدون استثناء, وإن كان بعضها على ركاب العمل ذي الطبيعة التجارية والاقتصادية. كأني به اختار الخدمة العامة ووهب حياته لها كما كان من والده عثمان الصالح وأعمامه المعلمين الشهيرين صالح وعبد المحسن بن ناصر الصالح الذين كانوا مثال ممتهني الخدمة العامة في مختلف مساربها وشعابها ومصاعبها ومراقيها.
اختار ناصر - رحمه الله - الخدمة العامة منذ أن كان في مراحل الدراسة الجامعية والعليا، حيث تخصص وركز على مجال الزراعة والمراعي والثروة الحيوانية، وهي مجالات لا يمكن أن تكون إلا في الخدمة العامة. فقد كان تفكيره منصب على ذلك وهي همه الأول. وانتهت به خبراته الفنية وتجاربه في الإدارة والقيادة والنزاهة في خدمته في وزارة الزراعة، أن يطلب منه إنشاء شركة الأسماك السعودية. كانت موارد الأسماك في بلادنا كبيرة والتحديات تجاه تنظيمها اكبر فقد كانت مشتتة، بل وتكاد أن تكون مهدرة فتمكن الفقيد - رحمه الله - بالتعاون مع ثلة من الرجال المخلصين ممن وضعوا ثقتهم فيه (على رأسهم د. عبد الرحمن آل الشيخ الذي كان وزير الزراعة ورئيس مجلس إدارة الشركة الناشئة)، من لمَ ِّ شتات هذه الثروة بكل حنكة وذكاء وإخلاص في إطار عصري ذي استدامة وبقاء، وفتح المجال للتنظيم العام، حتى جعلها في متناول صناعة الأسماك الوطنية، سواء الأفراد أو الشركات والمؤسسات الوطنية.
وعندما استقال من الشركة بعد ما يزيد على عقد من الزمن، كانت الشركة تنتج إنتاجاً هو الأعلى في الإقليم وأرباحاً مجدية تشجع بها المستثمر وعوضت الحكومة استثماراتها، وخلقت أسواقاً في المملكة للأسماك لم تكن هناك، وثقافة لم تكن راسخة في معظم مناطقها.
أجزم أن الاستاذ الصديق سليمان الصراف الصديق الوفي والمساعد المؤهل للفقيد وزملائه الذين لا أستحضر أسماءهم الكريمة، سوف يكتبون عن صديقهم وعن الشركة ومراحل تكوينها ونجاحها وما تلا ذلك من مراحل بعد استقالة الفقيد والفريق العامل معهم.
ليس هدفي من المقال الحديث عن الثروة السمكية العظيمة في بلادنا أو حتى شركة الأسماك مع انه موضوع مهم جداً ويستحق البحث والتاريخ والمراجعة، ولكن ما أهدف له وأرمي إليه هو الحديث عن الفقيد - رحمه الله - وقيمه الإدارية وفكره المستنير.
ابدأ بموقف لا أنساه حيث كنت في بداية حياتي العملية في مجال إدارة المشاريع مهندساً في موقع ناء بعض الشيء في المنطقة الشرقية من بلادنا الغالية. وكنت على وشك العودة لعملي هناك بعد زيارة لوالدي ووالدتي في الرياض، وتصادف أن كان ناصر - رحمه الله - في الرياض وكان ينوي الذهاب للمنطقة الشرقية في رحلة لمتابعة أعمال الشركة في أيامها الأولى قبل إنشاء المقر الرئيسي في الدمام، فهو «المدير العام» لشركة تنشأ من الصفر، رأس مالها، في أرقام تلك المرحلة ضخماً, ومواردها أضخم، ومجال نشاطها واسع سعة البحار التي تطمح أن تصيد فيها. فعرض عليَّ صحبته - رحمه الله - وقد يكون أمرني فاقتراحاته - رحمه الله - كانت أوامر.
ذهبت معه متوقعاً استقبالا حافلا وسيارات وسائقين في مطار الظهران. وإذا بي في الدرجة السياحية من الطائرة وفي استقبالنا «ونيت» أحمر يقوده أحد أهم المساعدين الميدانيين للفقيد (الاستاذ سليمان الصراف) في المطار. وفي الرحلة من المطار إلى «مكتب» الشركة اجتماع مطول لمناقشة التحديات والخطابات والجدالات مع هذا وذاك من الإدارات والأجهزة الحكومية وقيادييها.
كنت صامتاً ولا أستبعد أنهم نسوا أنني معهم في السيارة، والحق يقال إن الرحلة والحوار طوال الرحلة على طرقات المنطقة الشرقية بين المطار ومكان سكناي النائي ترك في خاطري وضميري أثراً كبيراً كان ولازال محل تأملي في حياتي العملية والأسرية. شممت عبق الإخلاص والأمانة والحرص والذكاء والرشد ومراعاة التفاصيل الصغيرة والكبيرة. كان الرجل مع حرصه الشديد والتزامه بالذمة المالية يفكر بشكل عجيب وشجاع خارج الصندوق وتركيزه الليزري على المهمة. تسبب ذلك في نجاحات كم أتمنى أن تنشر وتبحث ولكن ما يهمني هو تأثري بها في مجال عملي وثقافة العمل لدي وزملائي الذي عملت معهم.
كما كان يسر أيما سرور أن يتسبب في خدمة البعيد والقريب ويكره الظهور المفرط والشهرة الجوفاء. ومع أن عمله في شركة الأسماك كان تجارياً لخدمة الملاك (بما فيهم الدولة اعزها الله) إلا أنه كان في أساسه خدمة عامة استطاع مع فريق من الرجال ومن خلالها تطوير صناعة صيد وتسويق الأسماك في بلادنا لمراحل متقدمة. وكم كان مسروراً قبل وفاته أن بلادنا الآن في إطار الرؤية المباركة تكمل وتوسع ثقافة صناعة صيد وتسويق الأسماك بشكل منظم ذو استدامة. كان من بعد نظره فضلاً عن تطوير صناعة الأسماك بواسطة وسائل تجارية وصناعية واقتصادية مستدامة، قراره الشجاع بجعل جيزان مقراً رئيساً للشركة في وقت مبكر كانت جيزان في أمس الحاجة لمصادر للتوظيف والتطوير والتنمية، وها هي الدولة وبكل كفاءة تتوجه لجعل جيزان في وسط جغرافيا التنمية البشرية والزراعية.
كان لا يتوقف عن القراءة والاطلاع العام والخاص - رحمه الله - وهنا سوف يؤكد زملاؤه وأصدقاؤه مقدار انفتاحه على العالم والمعطيات والمتغيرات بشكل شجاع، انفتاح فكري مثير للإعجاب (والضيق للبعض آنذاك) كان ذلك حينما كانت بلادنا تدلف بوقار لمسرح العالم بعد أن رسخ الكيان فيها المؤسس البطل وخلفاؤه الملوك ورجالهم العظماء - رحمهم الله جميعا -.
ترجم ناصر - رحمه الله - انفتاحه الفكري لأمور عمليه حقيقية بدلاً من حصرها في السفسطة والحوارات العقيمة والتنظير. تجد الانفتاح واضحاً في مكتبه وفي قراراته والاستراتيجيات التي يصوغها مع زملائه، كما تجدها إيحاءات في حواراته وبين السطور في مقالاته (فقد كان كاتباً متمكناً).
لقد كان لناصر - رحمه الله - قبول عجيب في الأسرة بالعموم والأسر القريبة من الأصهار والأنساب وأبناء العمومة. وكانت زياراته للرياض على قصرها مناسبة تجمع الجميع ويحتفل بها أعضاء الأسرة. وأستشهد هنا بأبيات قالها صديقه وابن عمه الشاعر أحمد بن صالح الصالح (مسافر)
لقد كان براً كريماً له
تطيب قلوب وتستبشر
بطلعته إن أتى وافداً
وتحلو اللقاءات لا تكدر
أخ وحبيب صدوق له
أحبته بلقاً تؤثر
مجالسه لا تمل عـلى
حديث حميم إذا يسمر
هناك الكثير مما يجب أن يقال عن ناصر بن عثمان الصالح ولكن الهدف في هذا المقال إيجاز الكثير والإشارة لما هو أكثر، ولا نقول إلا الحمد لله رب العالمين ورحمنا الله وإياه ووالدينا وأموات المسلمين وحفظ الله لنا بلادنا وأهلها وولاة الأمر فيها .
** **
عبدالإله بن عثمان الصالح - «الرياض»