حمّاد بن حامد السالمي
«رحمك الله زميلي وصديقي العزيز (بوزنيقة)..؟!
«بوزنيقة.. مفردة تصغير من (زَنْقة)، وزنقة اسم الطريق الضيق أصغر من نهج- شارع، والزنقة نسميها نحن عرب المشرق (زُقاق)، وزقاق؛ مفردة تركية وليست عربية، ولعل (زنقة) هي الأصح والأفصح. و(بوزنيقة)؛ اسم على مدينة مغربية ساحلية صغيرة بين الرباط والدار البيضاء على ضفاف المحيط الأطلسي.
«لعلكم تظنون؛ أن هذا الزميل والصديق الذي أسميه (بوزنيقة)؛ هو (مغربي أو تونسي أو جزائري)؛ كما جرت عادة إخوتنا العرب هناك في تسمية الأمكنة والناس، ولكنه سعودي زميل دراسة من قبل خمسين سنة في الطائف، ثم تفرقت بنا السبل بعد التخرج، فباعدت بيننا مئات الكيلات؛ حتى جاء العام 1983م على ما أظن؛ لنتقابل صدفة، ولكن هناك في ديار بعيدة.
«كنت صائفة ذلك العام في ناحية مدينة (الخِنيفرة) في جبال أطلس الأوسط ذات الطبيعة الخلابة، أحمل (كاميرا)، وأبحث عن لقطات لا تتوفر إلا هنا؛ حتى فوجئت برجل في مواجهتي يرتدي (جلابة صوف) مغربية صفراء، وينتعل حذاءً تقليديًّا مغربيًّا أصفر هو الآخر (بَلْغة)- بالفتح أو الضم- ويحمل هو الآخر (كاميرا) تصوير. أمعن كل منا نظره في الآخر، فإذا هو يبادرني باسمي، وإذا أنا أناديه باسمه، وإذا نحن معًا بعد انقطاع دام حوالي عقد ونيف. مكثنا عدة ساعات في حديث طويل عن أيامنا الخوالي، لكني عرفت منه أنه تعوّد مثلي أن يقضي إجازته السنوية في هذه الديار. كما لاحظت عليه أنه يتزيا بزيها، ويتكلم بلغة أهلها كأنه واحد منهم، وأنه يحب مدينة (بوزنيقة) الصغيرة جدًا ويسكنها دائمًا، ثم ينطلق منها شمالًا وجنوبًا وشرقًا في جولات ماتعة. ملاحظة أخرى.. عرفت منه أنه يحب السفر وحيدًا فقال لي موضحًا: يقول أجدادنا في الحكمة: (إذا جيت بديرة خذ بدلّها ولا خلها)، فهذا تفسير لزيي ولغتي هنا كما ترى وتسمع. ويقولون: (الرفيق قبل الطريق)، وأنا يا صديقي؛ لا أعرف رفيقًا للطريق أثق به.. أخشى أن أبتلى برفيق (انقلابي)..؟!
«هذا هو مربط الفرس إذن.. (انقلابي).. ماذا يعني بهذا (هادا الغزال ديالنا بوزنيقة في بوزنيقة والنواحي)..؟! و(بوزنيقة) اسم أطلقته عليه بعد سنوات أخرى عندما شاع الجوال وتواصلنا أكثر، ورحت ألتقيه مرة في الرباط في (شالة وبوداية)، أو في مقهى بطرف نهر (أبي الرقراق) بين سلا والرباط بمحاذاة القصبة التاريخية، ومرات في نواحي أخرى. أحب رحمه الله هذا الاسم؛ حتى أصبح إذا هاتفني حتى قبيل وفاته يفاجئني: (راني بوزنيقة وا صاحبي.. سليتيني.. ولاّ)..! ولاّ ولاّ.. رحمه الله ما ألطفه، عاش بدون أصدقاء خُلّص على ما يبدو.. أقصد: بدون (انقلابيين)، على طريقته في الوصف.
«ما قصة (الانقلابيين) في حياة الفقيد (بوزنيقة) إذن..؟ عرفت من لقاءاتي معه؛ التي ظلت تتم على أرض المغرب لأعوام عدة، وحتى بالهاتف الجوال مرات ومرات، أنه يشعر بمرارة لا حد لها؛ من أقارب وأصدقاء خذلوه وخانوه وغدروه، فكرِه صحبتهم، وملّ عشرتهم، وولّى عنهم الأدبار، ولهذا ظل- وخاصة بعد تقاعده- خدين كتاب، وقرين صحيفة، يقرأ وحده، ويسافر وحده، ويردد في اتصاله ومجالسه: احذر يا صديقي الانقلابيين..! إنهم يعيشون بيننا..! إنهم أشد فتكًا بالمجتمع من الانقلابيين السياسيين الذين يفتكون بالشعوب العربية شرقًا ومغربًا. هذا رأيه رحمه الله.
«قال لي مرات ومرات: ماذا تسمي من يتجمل في مجالسه مع صحبه بذمك وسبك، وهمزك وغمزك ولمزك، والتقليل من شأنك، والنيل منك بشتى الطرق القذرة، وهو الذي كان زميلًا لك في الدراسة والعمل، وصاحبًا لك في الحل والترحال، ومجالسًا كان يلهج أمامك بفضلك، ويسبح بحمدك، أو قريبًا بينك وبينه صلة دم. يقابلك بوجه، ويولي عنك بوجه آخر، ويصلك عنه ما يعكر صفوك، ويسود عيشك، ويجعلك تختار بين عقارب الأقارب ومدعي الصداقات؛ وبين (الكتاب والصحيفة والطبيعة والكاميرا)..؟ يضيف: لهذا تراني أحمل كامرتي، وأطوف البلدان، أصور الأمكنة ولا أصور الناس، وأصطحب الكتاب ولا أصطحب الناس. ما أكثر (الانقلابيين بيننا) يا صديقي. قلت له مرة بالهاتف وأنا ألاطفه: لماذا لا تحسبني واحدًا من هؤلاء الانقلابيين الذين عكروا صفو حياتك يا (بوزنيقة)..؟ ضحك وقال بطريقته الساخرة: أرجو أن تكون واحدًا..! قلت: واحدًا أو وحيدًا يا صديقي. مقبولة منك.
«هاتفني قبيل وفاته بعدة أشهر قال: (نا بوزنيقة.. عِقلتي عِليّا ولّا)..! قلت: نحن في زمن كورونا (آ خويا.. ما سليتي هاذيك البلاصات المزيانة)..؟ قال: كيف أنسى بوزنيقة؛ وأنت سميتني عليها، ورسختها في ذهني. قلت: أفكر في عنوان لمقال حول بوزنيقة المكان والإنسان الذي هو أنت، وقصتك العجيبة مع الانقلابيين. هل تسمح لي..؟ قال: تريد عنوانًا فريدًا لافتاً مثل عناوينك ومصطلحاتك التي سبقت بها في مقالاتك بالجزيرة ومنها: (الخوارج الجدد)، و(الكهفيون) و(الظلاميون).. وهلما جرى.. لك ذلك ولكن.. (تخلصني شي دراهم) مقابل هذا..! ثم استغرق في الضحك وأضاف: موافق بشرط: لا تذكر اسمي الصريح، ولا أسماء من كشفت لك عنهم من أصدقاء وأقارب. السر أمانة.
«أعترف أن (بوزنيقة) كان سببًا دافعًا لعنايتي بالمفردات المغاربية؛ حيث أجريت دراسة لغوية شعرية على 95 مفردة دارجة، فأعدتها إلى أصولها العربية، واكتشفت أنها صريحة فصيحة صحيحة، وصدرت في كتيب لـ (المجلة العربية) عدد رقم (47) فبراير 2001م، تحت عنوان: (الفصيح مما أضاعه المشارقة وحفظه المغاربة). عناية الصديق الدكتور (عثمان الصيني)، رئيس التحرير وقتها.
«بعد أن عرفت أن (الحبيب بوزنيقة)؛ غادرنا إلى دار المستقر قلت: لك الرحمة والغفران العزيز: (بوزنيقة).. سيظل السر أمانة كما طلبت. وها أنذا أردد من شعر المغرب الذي كنت تتحفنا به هذه الوداعية:
نِزْلَت من عييني دِمْعة مِقْهورة
سِوِّلْتَها: عِلاش مقهورة..؟
قالت: مِشتاقة لِحبيبي..
صوت وصورة..