د. عيد بن مسعود الجهني
العلاقات الدولية عرفت ما يطلق عليه المقاطعة الاقتصادية بين دولة أو دول أخرى متعددة في حالة نشوب حرب فعلية بينها، منذ قرون وفي هذا العصر المزدحم بالأحداث الجسام من نزاعات وصراعات بل وحروب تبرز قضية العقوبات الاقتصادية كسلاح يفرض على الدولة أو الدول المستهدفة بالعقوبات حتى تنصاع لتغيير في سلوكها السياسي أو العسكري كالتدخل في شئون الدول الأخرى أو تهديد السلم والأمن الدوليين.
وبتعريف مبسط (العقوبات) وسيلة ضغط تهدف إلى الحصول على تغيير في السلوك السياسي والعسكري للدولة أو الدول المعاقبة، وقد تبدأ العقوبات من التهديد وقد تبلغ قمتها لمقاطعة شاملة للعلاقات الاقتصادية ضد الدولة أو الدول المستهدفة.
ويذكر التاريخ أن الولايات المتحدة الأمريكية لها السبق في فرض الحظر الاقتصادي، ففي فترة نشوب حرب كبرى بين فرنسا وبريطانيا فرضت على الدولتين الحصار عام 1807 لتبقى محايدة لكنه فشل وألغي في عام 1809، وعلى نفس النهج أصدر نابليون الأول عام 1806 ما أسماه النظام القاري مع الدول الأوروبية منع فيه التجارة مع بريطانيا ولم يسجل نجاحا كسابقه الأمريكي.
ومع تأسيس الهيئتين عصبة الأمم والأمم المتحدة، خلالهما بدأ مفهوم العقوبات يبرز في العلاقات الدولية، رغم أنه حتى كتابة هذه السطور لم يكن هناك تعريف جامع مانع لمفهوم العقوبات التي يعود تاريخها إلى زمن الإغريق قبل الميلاد.
في عهد عصبة الأمم التي خرجت من رحم الحرب الكونية الأولى 1914 ــ 1918 وجاء تأسيسها بعد أن انطفأت نيران تلك الحرب الشرسة، ففي عام 1935 قامت العصبة بفرض عقوبات ضد إيطاليا عندما قامت بغزو إثيوبيا لاستعمارها.
ومن يتصفح ميثاق الأمم المتحدة يتضح له أن فرض العقوبات سنده قانوني نص عليه ميثاق الأمم المتحدة فالمادة (39) للميثاق تنص على أن المجلس سيتخذ التدابير اللازمة حيال أي تهديد للسلم أو انتهاك له أو الإقدام على عمل من أعمال العدوان حفاظا على السلم والأمن الدوليين وقد تكون التدابير ما هو منصوص عليه في المادة (41) من الميثاق التي جاء نصها (إن لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا يتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبرية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفا جزئيا أو كليا وكذلك قطع العلاقات الدبلوماسية)، ويمثل فرض الولايات المتحدة الأمريكية حظرا شاملا على كوبا عام 1958 التي اعتنقت النظام الاشتراكي أطول حظر في التاريخ المعاصر.
ثم جاء فرض عقوبات اقتصادية على روديسيا عام 1966 وجنوب إفريقيا العنصرية عام 1977 باكورة قرارات مجلس الأمن منذ تأسيس المنظمة، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991، بعد انهيار جدار برلين 1989، انفتحت شهية مجلس الأمن لفرض العقوبات الاقتصادية بشكل متسارع، فجاء فرض العقوبات على العراق، يوغسلافيا السابقة، راوندا، هاييتي، الصومال، ليبيا، ليبيريا، انغولا، والسودان، اليمن وبلاد الشام.
السؤال المطروح هل العقوبات مهما كانت سطوتها على الدولة المستهدفة سواء أكانت على شكل حظر أو مقاطعة ضد دولة ما مستهدفة تؤتي ثمارها كتغيير النظام السياسي وهو في الغالب الأكثر شيوعا في السياسات الخارجية للعقوبات الاقتصادية وفي دراسات أجراها خبراء منهم هوتبارو وآخرون ذهبوا إلى القول بأهمية العقوبات الاقتصادية بتحقيق المستهدف إلى حد كبير.
وفي عام 2015 أجرى Neumier وNeuenkirc دراسة أكدت أن للعقوبات الاقتصادية الأمريكية والأمم المتحدة تأثيرات صادمة على اقتصاد الدولة المستهدفة فهي تؤدي إلى خفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تزيد على 2 في المئة سنويا، وتؤكد الدراسة أن الآثار السلبية قد تستمر لمدة عشر سنوات ليبلغ عندها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي للدولة المستهدفة 25.5 في المئة.
وعلى الجانب الآخر فإن العقوبات (الصلبة) إذا استمرت تكسر ظهر الاقتصاد في البلد المستهدف فالصادرات والواردات تصبح في انحدار عاما بعد آخر والبطالة والفساد تجدان مرتعا لهما، والعملة تطولها العقوبات لتجعل منها لا تساوي الورق الذي طبعت عليه، والأمثلة حية أمامنا دولار أمريكي واحد يساوي (30) ألف ليرة في لبنان، وليست سوريا أحسن حظا، وإيران صاحبة الكوارث في العراق وسوريا ولبنان واليمن عملتها أصبحت في مهب الريح!!
لكن فعالية العقوبات رغم قسوتها فإن دراسة سجلت الفترة ما بين زمن الحرب العالمية الأولى مرورا بأختها الفاشية الثانية والتي قتل خلالهما أكثر من (60) مليونا من البشر، وحتى تسعينيات القرن المنصرم شملت (110) حالات عقوبات اقتصادية نسبة النجاح كانت بحدود 35 في المئة.
وإذا كانت العقوبات الاقتصادية في العصر الحديث تطبق ضمن منظومة متطورة من التكنولوجيا والرقابة شديدة الدقة من الجو بالأقمار الصناعية السابحة في الفضاء ومن على الأرض والبحار والمحيطات والأنهار، ومن الصعب التقاطها إلا بتطبيق أساليب حمائية في منتهى التطور، وإلا كيف أصبحت الهند ثم تلتها باكستان وها هي كوريا الشمالية دخلت النادي النووي من أوسع أبوابه.
ولا يخرج ملف الدولة الفارسية النووي عن تجربة الدول الثلاث التي أصبحت نووية، فهي وقعت اتفاقا دوليا عام 2015 حدد مسئولياتها وفي مقدمتها كسر شوكت هدفها النووي، ورغم ما في ذلك الاتفاق من ثغرات يمكن سدها إلا أن الانسحاب الأمريكي في عهد ترامب وتشديد العقوبات على ذلك البلد فتح شهية الإيرانيين منذ عام 2019 لتعلن رفعها مستوى التخصيب لليورانيوم إلى 20 في المئة ثم إلى 60 في المئة وزادت من تحديها للإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي باختيار الرئيس الجديد إبراهيم رئيسي الذي يعد إحدى الشخصيات الرئيسية المستهدفة بعقوبات أمريكية وأوروبية.
وإذا أخذنا كل من الهند وباكستان وكوريا الشمالية كأمثلة لم تنجح العقوبات في التصدي لبرامج تلك الدول ونجحت في سياساتها وامتلاك القوة النووية رغم العقوبات المغلظة التي فرضت عليها.
وها هي روسيا الدولة العظمى صاحبة (الفيتو) في مجلس الأمن اقتطعت أجزاء من أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وفرضت عليها عقوبات اقتصادية لم تنجح في إرغام ذلك البلد على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية التي احتلتها بالقوة.
المشهد العالمي اليوم يسجل صراعا أكبر قوتين على كوكبنا روسيا حشدت أكثر من (100) ألف جندي بأسلحتهم وعتادهم المتطور على حدودها مع أوكرانيا، فالقيصر الروسي بوتين شاهد حلف الناتو وهو على مرمى حجر من حدود بلاده في دول كانت ضمن إمبراطورية بلادها التي انهارت دويا على وقع ضعفها الاقتصادي والسياسي وإدارة الحكم وها هي تنضم إلى سفينة (الناتو).
هنا الدب الروسي استنهض قواته للمبارزة مع أوكرانيا وقدم شروطا وجهها للإدارة الأمريكية منها ألا تنضم أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ونزع الأسلحة المتطورة في الدول التي انضمت إلى الاتحاد الأوروبي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وتناثر الدول التي كانت تسير في فلكه.
وهذا هو مصير الإمبراطوريات عبر التاريخ واحدة ترتقي لتبلغ الثريا وأخرى تسقط يسمع دوي سقوطها في كل أركان الكرة الأرضية، وقد يقيم الإمبراطورية رجل واحد وقد يسقطها آخر مثل نابليون أقام إمبراطورية لكن مصيره كان نفيه ليعيش في جزيرة لوحده، والنازي هتلر سقطت إمبراطوريته التي بناها واختفى من الوجود. وعلى الفور القوة العظمى المقابلة كان ردها على السيد بوتين أن انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي قضية حرية وديمقراطية فالباب مشرع لمن تكتمل فيه الشروط، وفي هذا رفض لطلبات سيد الكرملين.
وتحذير خطير مفاده أن أي شن حرب على أوكرانيا حليفة الغرب من قبل الإتحاد الروسي سيقابل بعقوبات (عظمى) ستفرض على ذلك البلد، ولأن الصراع ما زال في أولى مراحله ولم يعلن عن حرب على أوكرانيا ولم تعلن القوة المقابلة عن نوع وشكل العقوبات فالدبلوماسية مازالت هي الأخرى في أول بدايتها وهي فن حل المشاكل العالقة في منظومة العلاقات الدولية.
والقوتان العظميان يدركان أنهما ركنان أساسيان في دعم السلم والاستقرار والأمن الدولي وتطبيق ميثاق الأمم المتحدة ومجلس أمنها.
ولأن عالم السياسة دائما يشهد تنازلات ذات طبيعة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية، تؤسس للحلول التي يقبلها العدل الدولي وبمفهوم القانون الدولي والدبلوماسي وحقوق الإنسان.
ولأن القوتين كانت لهما تجربة كبرى قادها ريجن وجورباتشوف وقبلها قضية كوبا وبطلها برجنيف وكندي أخمدت نيران الخلافات بين الدولتين أمريكا وروسيا، وكان لسلوك فن السياسة وفن الدبلوماسية وحتى العسكرية والاقتصادية لسد ثغرات الطوفان قبل فوات الأوان، فالمشهد ليس (صراخا) بين حزب إرهابي وزميل له.
إنه بين قطبين أي خطأ غير محسوب بدقة علمية عسكرية، سياسية، فنية قد يأتي أثره على الأرض وساكنيها.
فالتهديد والوعيد بين الكبار لا يعرف خطورته في النهاية إلا كبار دهاة السياسة.
كبار دهاة الدبلوماسية.
كبار دهاة السلطة العسكرية.
كبار القادة الذين يكسبون المعركة معتبرين أن الحلبة لا تتسع لاثنين فإما أن تكون الرابح أو الخاسر.
ورغم استمرار المحادثات الأمريكية الأوروبية ــ الروسية، إلا أن العالم يشهد تصاعدا للأزمة في ظل الحشود العسكرية الروسية الضخمة على الحدود الأوكرانية.
ومع استمرار خيار الدبلوماسية لحل الأزمة بين الكبار، فإن خيار الحل العسكري يعد أصعب السيناريوهات بناره وشراره ويعد مستبعدا.
وذكاء الرئيسين بايدن وبوتين يؤكد هذا، خاصة أن بوتين لن يقع بفخ أمريكي منصوب له كما فعلوا مع سابقه جورباتشوف.
والله ولي التوفيق..
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة