د. خالد الشرقاوي السموني
أضحت منطقة الساحل الإفريقي ساحة للتنافس يتدافع نحوها العديد من القوى الدولية بحثا عن النفوذ والهيمنة والموارد وهو ما يبدو جليا بالنسبة لفرنسا وروسيا، وذلك نظرا لأهمية المنطقة الاستراتيجية وتوفرها على الموارد والثروات الطبيعية، فضلا على أن دول الساحل تعد بوابة لوسط وغرب القارة الإفريقية، مما يجعلها هدفا جاذبا لاهتمام العديد من القوى الدولية. ففرنسا، تنظر إلى منطقة الساحل باعتبارها منطقة نفوذ تقليدية لها نظرا لماضيها الاستعماري هناك، كما تعد المنطقة سوقا واسعة لصادراتها الفرنسية، ومصدرا مهما للحصول على الموارد والثروات الطبيعية، كالنفط والغاز واليورانيوم.
غير أن التواجد الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي أصبح يواجه حاليا عداء متزايدا تجلى في الشهور الأخيرة بالمطالبة برحيل القوات الفرنسية، خاصة بعد إعلان فرنسا عن انتهاء عملية «برخان» التابعة لها يوم 14 ديسمبر 2021، والمؤلفة من 5 آلاف فرد، كانت تساعد دولة مالي في مواجهة جماعات جهادية «إرهابية».
ويأتي قرار إنهاء هذه العملية بعد أيام من سيطرة القائد العسكري في مالي، العقيد آسمي غويتا، على السلطة، حين علق مؤقتا العمليات المشتركة بين القوات الفرنسية والمالية وقال إن على فرنسا أن تدرك أن القيادة الحالية لمالي مسؤولة عن أمن البلاد، وستطلب المساعدة من شركاء آخرين. أكثر من ذلك، أن السلطات المالية تعتبر روسيا شريكا موثوقا به، كما تعاقدت مع قوات مسلحة روسية، حلت بدولة مالي.
نشير في هذا الصدد، إلى أن الجيش الفرنسي حقق بعض الأهداف في عهد الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند عند إطلاق عملية «سرفال» في يناير 2013، وهو أوقف تقدم المسلحين وأجبرهم على الاختباء بعيدا. كما حققت فرنسا بعض النجاحات في محاربة مسلحي الساحل خلال الأشهر القليلة منذ انطلاق عملية «برخان «؛ لكن الاضطراب السياسي في المنطقة وتدهور الوضع الأمني، ساعدا على مواصلة الهجمات الجهادية، والتي لم تستطع عملية «برخان» التصدي لها بحزم.
فضلا عن ذلك، فالوجود العسكري الفرنسي أعفى حكومات دول الساحل من التعامل مع المشاكل الأساسية، ليكتفي فقط بتسويغ عملية «برخان»، من دون التطرق إلى المشاكل التي تسمح للجهاديين بمواصلة عملياتهم الارهابية، كالظلم والتمييز والصراعات المحلية. ثم أن الانتهاكات التي ارتكبتها الجيوش الفرنسية، بتفتيش الأشخاص والمنازل ومصادرة الهواتف المحمولة والدراجات النارية، وبأخذ عينات من اللعاب لتشكيل قواعد بيانات الحمض النووي، وهي إجراءات تعد ممارسات مذلة من قبل قوة أجنبية حسب شعور السكان المحليين، كما أعطت صورة سيئة عن الجيش ومزيدا من المصداقية للجماعات الجهادية التي أصبحت تظهر وكأنها «مقاومة» في وجه «جيش الاحتلال». أضف إلى صمت الجيش الفرنسي عن الانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها جماعات ذات أجندة محلية ضد أخرى، مما أدى إلى تفاقم التوترات داخل مجتمعات دول الساحل وارتماء بعض السكان في أحضان الجماعات الإرهابية.
كل ذلك أدى إلى حدوث جدل حول الوجود العسكري في الساحل، بعد أن تجاوز عدد القتلى من الجنود الفرنسيين الـ50، مما أثار شكوك السياسيين من اليمين واليسار في مزايا استمرار تواجد الجيش الفرنسي في منطقة الساحل. بالنسبة لقصر الإليزيه، فهو يعترف بأن الوضع في الساحل يزداد سوءا يوما بعد يوم، لكنه لم يعترف علنا بأن الجيش الفرنسي غارق في مستنقع وأن عملية «برخان « فشلت في احتواء تقدم الجماعات الجهادية المسلحة.
بالنسبة لروسيا، فلها رغبة في أن تصبح قوة عظمى من خلال بوابة إفريقيا، وتزداد أهمية منطقة الساحل في السياسة الروسية نظرا لموقعها الاستراتيجي وسط القارة الإفريقية، مما قد يساعد روسيا على نسج علاقات تجارية مع الدول الإفريقية بما فيها فتح أسواق جديدة لتوسيع المبيعات العسكرية الروسية، إضافة إلى الاستفادة من الفرص الاقتصادية المتاحة في المنطقة من أجل الوصول للموارد والثروات الإفريقية.
غير أن التقارب بين مالي وروسيا أثار حفيظة فرنسا والاتحاد الأوروبي. فقد حذرت فرنسا دولة مالي من مغبة التعاقد مع «المرتزقة الروس»، وقالت إن ذلك لا يتماشى مع استمرار الوجود الفرنسي في هذا البلد، لأنه حتى وإن قررت فرنسا توقيف عملية «برخان «، فإن تواجدها مازال مستمرا. كما حذر الاتحاد الأوروبي من أن التواجد الروسي سيؤثر على العلاقات بينه وبين مالي.
وهكذا يظهر أن وصول الروس إلى مالي فتح مرحلة التنافس الدولي في منطقة الساحل، في الوقت الذي تعاني فيه دولة مالي من شلل اقتصادي بسبب العقوبات التي فرضتها المجموعة الاقتصادية لغرب لإفريقيا «إيكواس» (ECOWAS) كإغلاق حدود بلدانها مع دولة مالي وتجميد أرصدتها لدى المصارف ومنع التحويلات البنكية، وسحب كافة الدبلوماسيين من باماكو، وإلغاء كافة أشكال التعاون معها، وكذلك المساعدات المالية باستثناء الأدوية والمواد الغذائية، وذلك بسبب الانقلاب العسكري الذي حصل بمالي.
كل هذه العوامل قد تشجع على توسع رقعة الجماعات الجهادية بمنطقة الساحل، في غياب تنسيق بين القوى الخارجية بالمنطقة والصراعات من أجل التموقع الاستراتيجي والسيطرة على الثروات الطبيعية وانسداد أفق الحوار مع هذه الجماعات التي صارت تشكل تهديدا حقيقيا على استقرار وأمن المنطقة.