د.عبدالله بن موسى الطاير
ما يحدث في العالم من كييف إلى صنعاء هو نتيجة لمقدمة واحدة وهي انسداد الأفق السياسي. ومن الطبيعي أن تردد القوى العظمى التقليدية، وإحجام القوى الصاعدة عن لعب دور القيادة والاضطلاع بمسؤولياتها يضيق مساحة العمل السياسي، ويغيب الدور القيادي الفاعل في القضايا الدولية الملحة، ويعجل بالحرب (لإصلاح) ما أفسدته السياسة.
منذ الحرب العالمية الثانية هيمنت أمريكا على القرار العالمي، وتربعت منفردة قطباً أوحد في قيادة العالم بعد إزاحة الاتحاد السوفييتي، المنافس التقليدي لها. منذ عام 1946م أثقلت أمريكا كاهلها عسكرياً واقتصادياً لتأكيد هيمنتها، وممارسة مسؤولياتها في إحلال الأمن والسلم الدوليين، لكنها خرجت عن هذا النسق عندما احتلت أفغانستان عام 2001، والعراق عام 2003م في حرب ثأر محضة تحت غطاء محاربة الإرهاب. النتائج التي تمخضت عنها تلك المغامرة كانت وبالاً على أمريكا وعلى المنطقة. تحت وطأة كلفة التدخل العسكري، لجأت هذه الدولة العظمى بعد عشر سنوات من غزوها أفغانستان لأسلوب مبتكر في تغيير الأنظمة لا يعتمد على قوتها العسكرية وإنما على قوة الشارع الذي تحركه من خلال شبكات التواصل الاجتماعي والتدخل السياسي القوي (ارحل اليوم وليس غداً)، ذلك ما عرف بالربيع العربي. وبعد عشر سنوات من الربيع العربي تأكد فشل تلك الآلية في تغيير الأنظمة، وخرجت أمريكا من أفغانستان بشكل مهين، وخرجت بعد ذلك بشكل رسمي من العراق وسط احتفالات إيرانية بمغادرة أمريكا العراق بعد أن سلمته لها بدون مقابل.
أمريكا تركت في الشرق الأوسط دولاً فاشلة ومجتمعات متناحرة، وخلّفت حركة طالبان حاكمة على أفغانستان، وإيران وصية على العراق، واكتفت بزيارات ترددية إلى ضحايا الربيع العربي من دول المنطقة في محاولات لرفع الملام عنها كقوة عظمى وقطب وحيد مسؤول عن أمن العالم واستقراره.
وفي حين يبدو العالم مزدحمًا بالصراعات، ولا يمكن التنبؤ بتطوراتها، يجب الاعتراف بأن المبادرات والتحركات الأمريكية لا ترقى إلى مستوى التوقعات في توفير القيادة والمحافظة على النظام العالمي وإدارة الأزمات الدولية. يقابل هذا الانكفاء الأمريكي تردد القوى الصاعدة كالصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا في لعب دور البديل لقوة أمريكا المتراجعة.
المشاغل التي أرهقت أمريكا خارجياً توازيها أعباء محلية تجعل البيت الأبيض ومؤسساته قلقة على الاتحاد الأمريكي المهدد بالعديد من المحن الداخلية، وهو أقرب ما يكون إلى الحرب الأهلية من أي وقت مضى. فالاستقطاب والانقسام الحزبي وصل مرحلة لا يمكن تصديق أنها تحدث في أمريكا، والتباين بين مكونات المجتمع الأمريكية العرقية يضرب بقوة في جسد التعايش الذي شيد أمريكا الحديثة، ولذلك تنشغل الإدارة الأمريكية بالداخل أكثر من أي وقت مضى خاصة وأن الرئيس ترامب قد ترك لهم إرثاً ثقيلاً يعيق أمريكا عن مواصلة دورها القيادي في العالم. «أمريكا أولاً» يعني العودة بالسياسة الأمريكية إلى ما قبل عام 1916م، وهذا فيه خسارة للعالم الحديث.
ومثلما هي أمريكا، تعاني أوروبا من أزماتها الداخلية، وبخاصة مع تصاعد اليمين المتطرف، وآثار البريكست، وتبعات جائحة كورونا، مما يقلل من تسلم الاتحاد الأوروبي دوراً مستقلاً في القيادة العالمية. الانكفاء والانشغال الغربي وتردد حلفائهم كالهند والبرازيل وجنوب إفريقيا منح روسيا فرصة لتقديم نفسها قائداً محدود القدرات؛ لقد اكتفت بحضورها العسكري في شرق المتوسط على الأرض السورية، ومزاحمة الناتو على تخوم أوروبا الشرقية. لا يمكننا اليوم أن نشير إلى حضور روسي في مقابل أمريكا وأوروبا وحلفائهما، ولكن لا يمكن أيضاً إغفال الطموح الروسي الذي يحاول استثمار التراجع الأمريكي واقتطاع ما يمكن من خارطة نفوذه. وكما تفعل روسيا، تفعل إيران في مناكفة أمريكا في منطقة لطالما كانت محمية من أمريكا ومحرمة على التدخل الروسي أو الإيراني وهي منطقة الخليج والشام. روسيا وإيران تعملان بالتضامن في سوريا، وتوفر روسيا غطاء أممياً للتوغل الإيراني في الدول العربية وكثيراً ما تعارض قرارات الإدانة للمشروع الإيراني أو المليشيا التي تعمل نيابة عن الحرس الثوري في أكثر من بلد عربي.
الانكماش الأمريكي، والتمدد الروسي المحدود، وتردد القوى الصاعدة، وحيرة القوى الإقليمية أقفل الأفق السياسي في وجه الفرقاء، والانسداد السياسي يقرّب إلى حد كبير الأزمات من النهايات الدموية. وللنظر إلى ما يحدث في أوكرانيا، الكثير من التحركات السياسية، لكنها بدون نتائج حتى الآن، وفي الشأن اليمني يرفض الحوثيون جميع المرجعيات المطروحة على الطاولة للحوار، والخطاب الصادر عن الأمم المتحدة يساوي بين الحكومة الشرعية والمليشيا الانقلابية الإرهابية. المشهد بعمومه من أوكرانيا إلى اليمن ينذر بحرب تندلع في أي مكان من مناطق الصراع تعيد صياغة أوراق، العالم وترتب قواه؛ فالبديل الطبيعي للسياسة هو الحرب.