د. عبدالحق عزوزي
الاتحاد الأوروبي هو عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقةً ومشروعاً سياسياً حقيقياً بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيي الأمم؛ ورغم تباين دولها من حيث درجة التقدم الاقتصادي والمالي والفلسفة السياسية والاجتماعية السائدة، فإنها استطاعت مجتمعة من خلال حكمة بعض من أعضائها والمبادئ الوحدوية السامية من إصدار عملة أوروبية موحّدة حلّت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وتمكَّن الاتحاد الأوروبي من تحقيق هاته المنجزات وغيرها بفضل عوامل الثقة السائدة، وبفضل عوامل سياسية وعوامل اقتصادية وعوامل تشريعية، مما جعل من الاتحاد الأوروبي نظاماً سياسياً وقانونياً له طابع خاص.
ويعيش الاتحاد الأوروبي في إطار النظام العالمي الجديد الموسوم بجائحة كورونا في ظروف صعبة، وبدأت تظهر محددات جديدة له وإكراهات غير مسبوقة؛ فالجائحة أبانت أن النظام العالمي مريض وأناني، والدولة - القومية في أزمة، والمرحلة الحالية والمقبلة بدأ يتغيّر فيها كل شيء بدءاً من أسس هذا النظام وأولويات الدولة القومية وأسس العلاقات الاجتماعية الجديدة.
ونرى أن هذا الاتحاد، يسابق الزمن لمواجهة عدة تحديات من بين ذلك السعي الحثيث لمعالجة الأضرار التي لحقت بالاقتصاد العالمي جراء تفشي الوباء والتي لم يسبق أن شهدت البشرية مثيلاً لها، كما أن هذا النظام يسعى لحماية مبادئ النظام العالمي الليبرالي الذي ينبغي التركيز عليه، وهذا ليس بالأمر الهيِّن.
وفي هذا الصدد، تسلَّمت فرنسا اعتباراً من الأول من كانون الثاني - يناير رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي الممثّل لمصالح الدول الأعضاء الـ27 أمام المفوضية والبرلمان الأوروبيين، خلفاً لسلوفينيا؛ وهاته المرة الثالثة عشرة منذ سنة 1958 التي تتولى فيها فرنسا رئاسة التكتل لنصف سنة، وكانت آخر مرة في سنة 2008 . كما ستتزامن الرئاسة الأوروبية مع الانتخابات الرئاسية الفرنسية في 10 و24 نيسان - أبريل، ومع الانتخابات التشريعية في حزيران - يونيو. وهو سيناريو سبق أن حصل سنة 1995، بفارق أن فرنسوا ميتران كان في ذلك الحين يشارف على نهاية رئاسته بعد ولايتين متتاليتين.
وحدد الرئيس إيمانويل ماكرون ثلاث أولويات للرئاسة الفرنسية، هي تحديد حد أدنى للأجور في كل انحاء الاتحاد الأوروبي، وضبط عمالقة الإنترنت وفرض ضريبة كربون على الحدود، وهي أهداف طموحة ولكنها ستصطدم بالمدة القصيرة المتبقية للرئاسة الفرنسية وتأتي في ظل أوضاع جد صعبة ما بين تفشي وباء كوفيد 19 في ظل متحورة أو ميكرون وفي ظل الحشد العسكري الروسي على أبواب أوكرانيا.
وفي هذا الصدد قدم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخراً خطاباً أمام النواب الأوروبيين بستراسبورغ سرد فيه أولويات بلاده بمناسبة رئاستها للاتحاد الأوروبي خلال الستة الأشهر الأولى من 2022، وتحدث فيها عن الديمقراطية، البيئة والسلم في القارة العجوز.
كما دعا إلى اقتراح تحالف جديد مع الدول الإفريقية من حيث الاستثمارات، والصحة والأمن. وأعلن ماكرون أن فرنسا ستنظِّم قمة أوروبية إفريقية في شباط - فبراير، هدفها إعادة بناء الشراكة بين القارتين. ونحن نعلم أن هناك اليوم مشاكل مستعصية بين فرنسا وبعض الدول الإفريقية وعلى رأسها مالي التي عرفت عاصمتها مؤخراً مظاهرات حاشدة، تنديداً بعقوبات المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا والتدخل الفرنسي في الشؤون الداخلية للبلاد. وفي هذا الإطار، يوضح ناشطون سياسيون أنهم ليسوا ضد فرنسا، بل ضد خيارات الحكومة الفرنسية في مالي ودول الساحل.
وشدَّد ماكرون على أن الأوروبيين بحاجة إلى تأسيس «نظام جديد للأمن والاستقرار» يستدعي عملية «إعادة تسلّح إستراتيجية» وخريطة طريق تشاركها مع الحلفاء في إطار حلف شمال الأطلسي، ثم تطرح للتفاوض مع روسيا... ولكننا نعلم محدودية هاته الرؤية، فمسألة الاستقلال الإستراتيجي الأوروبي ما هي إلا وهم من الأوهام: إذ لن يتمكن الأوروبيون من لعب دور أمريكا الحاسم كمزوّد للأمن في المنطقة الأوروبية؛ ويكفي أن الاجتماعات الماراثوينة مع روسيا بشأن أوكرانيا هي مع أمريكا أولاً وآخراً.
إن إعادة بناء البيت الأوروبي من الناحية الأمنية والاقتصادية والاجتماعية مسألة معقدة لنوعية النظام العالمي الجديد، حيث الطابع الانغلاقي لدوله والتي ستكون هي القاعدة في المدى المتوسط، ناهيك عن الاحتكار والصراع الصيني - الأمريكي اللذين لا يبشِّران بخير.