سهام القحطاني
اتصف العقل البلاغي عند العرب منذ العصر الجاهلي وحتى نهاية العصر الأموي بالقياس، وهذه الصفة الكلية بمشتقاتها كانت المظهر الغالب على فكر هاتين الحقيقتين، مع أن التغير الديني من خلال ظهور الإسلام ودخول عرب الجزيرة العربية إلى الإسلام ودخول غير العرب، كانت فرصة لتجديد العقل البلاغي وإعادة تنظيم تأثيره في صناعة النص الأدبي و الفكري، لكن استمرار ديكتاتورية العقل البلاغي كان طبيعياً في ظل العصور الأولى للإسلام؛ بسبب تراجع النص الشعري وإحاطته بتأويلات الشبهة بعد نزول آية {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} والفهم الخاطئ لها، عزَّز ديكتاتورية العقل البلاغي مقابل تهميش النص الشعر، وليس هذا هو السبب فقط لاستمرار ديكتاتورية العقل البلاغي،فقد حاولت تلك الديكتاتورية استعمار النص القرآني ذاته و تقييده بمسطرة ذلك العقل وفق معاييره الجاهلية.
صحيح أن النص القرآني أنزل بلغة قريش «النموذج اللغوي الكامل، إلا أنه ليس محاكياً لذلك النموذج فقط كما فهم العرب، بل هو إعجاز في ذاته، متفرّد في بنائه لا يمكن تقعيده بتنظيرات إنسانية سواء متوارثة أو مبتكرة، ومحاولة العرب ربط النص القرآني بمعايير عقلهم البلاغي قبل الإسلام أدى بعد ذلك إلى ظهور مصطلحات مثل «غريب القرآن» و «الشاذ» في القرآن؛ الشاذ بمعنى ما يخالف الأعراف اللغوية و البلاغية المتوارثة للعرب،و مصطلح «الزائد».
فالعرب قبل إسلامهم نظروا إلى القرآن الكريم كنص شعري بسبب الأساليب اللغوية و البلاغية الذي يتميز بها النص القرآني ولذا أُنزلت الآية الكريمة «وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون»-41، الحاقة-.
فكرة «شعرية النص القرآني «ظلت في اللا وعي العرب الأوائل حتى بعد إسلامهم ظلوا يفسرون النص القرآني بذات أدوات ومعايير تقويمهم للنصوص الشعرية في أسواقهم الأدبية قبل الإسلام؛ وهو ما يعني أن المسلمين الأوائل تعاملوا مع النص القرآني «الإعجاز الكامل» الذي يفوق قدراتهم الفكرية و التحليلية بأدوات بلاغية متوارثة فما كان منهم حتى يثبتونه في مستوى قدراتهم إلا أن يفرضوا حصارا معياريا على النص القرآني ليظل مقيدا بمسطرة عقلهم البلاغي، تلك المسطرة المقدسة التي أورثت النص القرآني فيما بعد «صراع لا ينتهي بين قضيتي النقل و العقل».
ونظرا لتراجع هيمنة الشعراء في صدر الإسلام التي كانت طاغية في العصر الجاهلي تحولت ملكية العقل البلاغي من الشعراء إلى طبقة جديدة ظهرت مع الإسلام وهي «طبقة المفسرين» الأكثر تعصبا وتطرفا لمسطرتهم البلاغية أكثر من الشعراء، وهذه الطبقة لم ترث «ديكتاتورية العقل البلاغي الجاهلي» فقط بل «استعمرت النص القرآني» باعتبارها المالك الجديد للعقل البلاغي.
بدأت هيمنة المفسرين على النص القرآني بعد وفاة الرسول الكريم من خلال الصحابة ثم التابعين ثم تابعي التابعين ثم انتقلت ولاية حكم العقل البلاغي بعد تراجع قيمة المفسرين بعد عصر التدوين واكتمال أصول علم التفسير وشيوع التعليم بين المسلمين إلى طبقة جديدة وهي طبقة الفقهاء ثم طبقة علماء اللغة.
لقد أرادت طبقة المفسرين الأوائل من المسلمين إحياء «ثيمة الأحبار» على غرار اليهود و النصارى؛ وهم العلماء المفسرون للنصوص الدينية التي أُنزلت على الأنبياء وامتلاك الاستحقاق الكلي لتفسير النص القرآني وفق ذائقتهم البلاغية و اللغوية، دون مراعاة أن النص القرآني هو «نص إعجازي في ذاته» لا يمكن إخضاعه لأي ذائقة بلاغية أو لغوية مهما عظّم شأنها و شأن صاحبها، وهذه الحصرية التي أرهصت لها طبقة المفسرين ثم ورثتها طبقة الفقهاء أدخلت المسلمين في صراعات تأويلية ثم مذهبية ومدونة فقهية لا يزال المسلمون يجنون آثارها من خلاف ورجعية وتطرف.
ومن المؤكد الذي لا يعتريه أي شك أن الصحابة ومن اتبعهم بعد ذلك في فكرة «حصرية تفسير النص القرآني» كانت غايتهم تسهيل فهم النص القرآني على المسلمين وتأمين حدوده من أي افتراءات أو مغالطات أو مخالطات، لكنهم وقعوا فيما لم يحسبوا له من حذر وهو تجميد النص القرآني وهو ما أدى بالتقادم إلى فصله عن الواقع المتطور للمجتمع الإسلامي ونشوب الصراع مع العلمانية.
وكما لم يؤثّر تغير عقيدة العربي في قيادة حركة انقلابية على العقل البلاغي وتأسيس معايير مختلفة للعقل الجديد انطلاقا من عقيدة الإسلام وأصولها الداعمة لحرية الفكر والتأمل والتجديد، لينتقل العربي من جاهليته إلى الإسلام بحقيبته الفكرية المتوارثة.
وقد يكون انشغال المسلمين بالفتوحات والتبعية للأبوية الفكرية التي تعوّد عليها في جاهليته، وعدم إيمانه أو استعداده على الاستقلالية الفكرية التي منحها الإسلام لكل إنسان عندما حرره من عبودية الأصنام المادية والفكرية، لكن يبدو أن العربي المسلم تحرر من الصنم الحجري ولم يتحرر من الصنم الفكري الذي كان يحيط به منذ حُكام خيم الأسواق الأدبية مرورا بطبقة المفسرين ثم طبقة الفقهاء، ففي كل عهد ثمة صنّم فكري يستعمر العقل العربي باسم المعرفة التي تختلف دلالتها من عصر إلى عصر.
كما لم يؤثر التجديد السياسي للمسلمين عندما انتقل الحكم من «الخلافة الراشدة» إلى «الدولة العضوية-الدولة الأموية» وما صحبه من اعتراضات سياسية في الانقلاب على العقل البلاغي وتأسيس معايير مختلفة لبناء مرجعية لعقل عربي جديد مُتحرر من قواعد اللغة والبلاغة وينطلق من حرية الفكر والإبداع.
لتظل فكرة أن «البلاغة» هي المسطرة المقدسة التي يجب أن ينطلق منها النص القرآني ثم الأدبي» قائمة حتى منتصف العهد الأموي؛ ولعل السبب في ذلك هو استمرار هيمنة الصحابة ومذهبهم البلاغي في التفسير على بدايات العصر الأموي وتأثيرهم الجاذب للجماهير، رغم انفتاح الدولة الأموية على ثقافة الشعوب الأخرى والحركة النشطة للترجمة وتقليدهم لإرث الشعوب المهزومة.