د.محمد شومان
أحد أهم سمات العصر الذي نعيشه هو أنه عصر ما بعد الحقيقة The Post-Truth Era، بمعنى أن الحقيقة أصبحت في متاهة، فهي مفتتة وغير واضحة ومراوغة، كما أنها أصبحت نسبية، ولا توجد معايير واضحة متفق عليها لرصد الحقيقة والكذب والتلاعب في كثير من المواقف، سواء في السياسة أو في الصحافة والإعلام أو الاقتصاد أو حتى في الحياة العامة.
بداية الاهتمام بما بعد الحقيقية ارتبطت بالممارسات السياسية للنخب السياسية والحزبية سواء في الدول الديمقراطية أو الاستبدادية، من هنا بادرت العلوم السياسية بدراسة الموضوع من زوايا مختلفة، وكانت هناك أمثلة واضحة عبر التاريخ الحديث والمعاصر، كان من أشهرها أكاذيب الحرب الباردة، التي مارسها المعسكرين الشيوعي والرأسمالي الغربي، لكن مع تطور تكنولوجيا الاتصال والإعلام تسارعت وتيرة عصر ما بعد الحقيقة، وصار الكذب والتزييف سريعًا وأكثر إتقانًا وانتشارًا، وظهرت أمثلة صارخة كما حدث في فضيحة وتراجيت، وادعاءات غزو العراق، وإنكار بيل كلينتون أنه مارس الجنس مع إحدى المتدربات في البيت الأبيض، ثم جاءت النقلة الأكبر مع ظهور وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي يعتبرها بعض الباحثين منصات لممارسة الكذب والتشويه، من باب المتعة والتسلية أحياناًً!!
مع وسائل التواصل الاجتماعي صار كل مواطن قادر علي إنتاج ونشر الأخبار والأكاذيب والصور وأفلام الفيديو بسرعة وإتقان غير مسبوق في تاريخ البشرية، وظهرت الأخبار المضللة Fake News أثناء الانتخابات الأمريكية عام 2016، والتي انتهت بفوز ترامب، والذي مارس بدوره أنواع متعددة وجديدة من التزييف والتلاعب أكدت الحضور القوي، وعلى أعلى المستويات لما بعد الحقيقة، فالرجل لم يقصر في اتهام أغلب وسائل الإعلام والصحفيين بالتحيز والتضليل، وأسس علاقة مباشرة بينه وبين الجمهور تعتمد على تغريداته الشهيرة، والتي أنكرت مثلاً حقائق علمية راسخة خاصة بالتغير المناخي وبخطورة جائحة كوفيد-19، وتلقي اللقاحات.
هكذا أسسس ترامب علاقة مباشرة مع المواطنين بعيدًا عن التقاليد المهنية للصحافة والإعلام، والتي تعتمد على الدقة والإنصاف والتوزان في عرض وجهات النظر المختلفة، وتزامن مع ذلك نمو ملاحظ في الحركات والأحزاب الشعبوية في الولايات المتحدة وأوربا، والتي اعتمدت على خليط من الأفكار والأكاذيب التي تتلاعب بالمشاعر ولا تهتم بمخاطبة العقول أو تقديم حجج منطقية، في هذا السياق منحت قواميس أكسفورد جائزتها لكلمة عام 2016 على «ما بعد الحقيقة»، وهو مصطلح يُعرف بأنه «يتعلق أو يشير إلى الظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل أهمية في تشكيل الرأي العام من نداء العاطفة والمعتقدات الشخصية».
اهتمام قواميس أكسفورد بعصر ما بعد الحقيقة عكس اهتمام واسع في صفوف الأكاديميين والإعلاميين بمناقشة الموضوع من زوايا وتخصصات مختلفة، فلم يعد ما بعد الحقيقة موضوعًا لاهتمام علماء السياسة فقط، وإنما صار مجالاً مشتركاً لاهتمام فلاسفة ومؤرخين وعلماء اجتماع وإعلام وعلم نفس وتربية واقتصاد، كل منهم سعي لمناقشة الموضوع من وجهة نظره والبحث عن وسائل للحد من الظواهر المصاحبة للعصر الغريب الذي نعيشه، عصر ما بعد الحقيقة، وكيف يمكن التعامل معه.
في سياق هذه المناقشات طرحت فكرة أن ترامب أو كلينتون أو الحركات والأحزاب الشعبوية لم تخترع ما بعد الحقيقة، فالأكاذيب وعمليات تزوير الحقائق والتلاعب قديمة وعابرة للحضارات، ولنتذكر دائماً مقولة أن التاريخ يكتبه المنتصرون بغض النظر طبعًا عن ما حدث، وكيف حدث، لكن ما بعد الحقيقة وعمليات التزوير والتلاعب العقلي والنفسي تتضمن بالضرورة قدرًا من الحقائق السليمة، أي أن هناك بينهما علاقة بين الحقيقة والكذب رغم ما بينهما من تناقض، لكن ما بعد الحقيقية لا يعني فقط الكذب فهناك مفاهيم أخرى مثل الخداع والتلاعب بالإطار العام للمعاني، وهناك فن الإقناع من خلال تزييف المعاني والدلالات وسياق الأحداث وسياق الكلام نفسه. بكلمات أخرى فإن ما بعد الحقيقة حالة أوسع وأعمق من الكذب، إن دعاة ما بعد الحقيقة هم أكثر مراوغة، إنهم يعملون على تخريب الحقيقة، من خلال تقويضها أو إضعافها. فهدفهم هو نزع الشرعية عن الحقيقة، لأن هذا النهج هو أفضل طريقة لنزع سلاح التهديد الذي تشكله الحقيقة لهم.
ويقترح أحد الباحثين تعريف ما بعد الحقيقة باعتبارها إستراتيجية متعمدة تهدف إلى خلق بيئة تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيرًا في تشكيل الرأي العام، حيث يتم تقويض الأطر النظرية من أجل جعل من المستحيل على شخص ما فهم حدث أو ظاهرة أو تجربة معينة، وحيث يتم نزع الشرعية عن الحقيقة العلمية. ويتضمن هذا التعريف ميزتين، الأولى، التركيز على الظلم المعرفي، حيث يتم استخدام ما بعد الحقيقة بقصد تقويض علاقة الفرد بالحقيقة. والثانية أن ما بعد الحقيقة هي انعكاس لأزمة الشرعية الجديدة، لدرجة أن ما بعد الحقيقة ينزع الشرعية عن مزاعم العلوم بشأن الحقيقة. فعلى سبيل المثال يتبنى البعض قناعات تتعارض مع الحجج المقبولة بين العلماء والمؤرخين والمتخصصين في السياسة وغيرهم من الخبراء. البعض مثلاً يمزج بين نظرية المؤامرة والمصطلحات العلمية الزائفة، ويستخدمهما في إنكار حقيقة وجود مرض الإيدز، ويشككون في أهمية وجدوى التطعيم ضد كوفيد-19، ويستخدمون مجموعة غريبة ومتناقضة من البيانات والمعلومات، كما يستخدم المنكرون للتغير المناخي تكتيكات مماثلة للتشكيك في الإجماع العلمي على آثار التغيرات البيئية.
وثمة تيار واسع من الباحثين يربط بين تجليات عصر ما بعد الحقيقة وأهمها سرعة انتشار الأكاذيب والسرديات التاريخية والعلمية والسياسية غير الدقيقة، وبين انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والتغير الهائل في نظام جمع ونشر الأخبار والمعلومات، والذي أدى إلى تراجع دور المؤسسات الصحفية والإعلامية في إنتاج ونشر الأخبار لصالح الدور النشط للجمهور في جمع ونشر الأخبار المضللة Fake News، والفيديوهات والأفلام، بل وتعديلها والتلاعب فيها من خلال برامج وتطبيقات التزييف العميق Deep Fake News التي أصبحت متاحة أمام كل من يريد ممارسة الكذب والتضليل.
لكن أعتقد أن مظاهر وتحديات ما بعد الحقيقية تتجاوز إمكانات الصحافة والصحفيين ورجال الإعلام، وتتعلق بأزمة أخلاقيات السياسة والسياسيون عبر العالم، ومدى التزام النخب المختلفة بتقديم الحقيقة للجمهور، والأهم مدى أخلاقية النظام الرأسمالي الاستهلاكي في عصر العولمة، وهل يعتمد على الحقائق أم على التنافس والبحث عن الربح؟ وهل تتضمن الإعلانات والجهود الترويجية الحقائق أم تبيع الأكاذيب والأوهام والمبالغات؟ وهل النظام الرأسمالي يلبي احتياجات حقيقية للناس أم يخلق احتياجات زائفة لا فائدة حقيقية منها، وبالتالي يجري تدمير البيئة وتغيير المناخ من أجل إنتاج سلع وخدمات لا حاجة حقيقية منها.
إن إشكالية الصدق والكذب وما هي الحقيقية، وما هي معايير الحكم على حدث ما بأنه حقيقي أو مزيف.. كلها إشكاليات صعبه واجهت البشرية منذ مطلع التاريخ وحتى اللحظة الراهنة من دون وجود وصفة سحرية تقدم إجابة أو إجابات نهائية، لكنها انتشار هذه الإشكاليات بسرعة وعلى نطاق واسع يهدد الديمقراطية والوحدة الوطنية فضلاً عن الحقائق التاريخية والعلمية. من هنا سعي البعض لتقديم أفكار وحلول لهذه الإشكاليات منها ما ركز على دور الإعلام والصحفيين في الحد من الأخبار الزائفة والتزييف العميق، وظهرت اتجاهات تدعو لتحسين عمل الصحافة والإعلام من خلال التزامها بالمعايير المهنية كالدقة والتوزان وغيرها، وهي أفكار مهمة لكنها ما تزال بعيدة عن إشكاليات دور المواطن الصحفي، ودور وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت منصات للأكاذيب والتشويه دون رقيب أو حسيب، ، والأهم دور الشركات العملاقة التي تمتلك وتدير وسائل التواصل الاجتماعي في محاربة الأخبار الكاذبة والإشكال المبهرة من التزييف العميق للصور والأفلام.
من جهة أخرى كشفت فوضى الاتصال العام والسيولة في عمليات إنتاج وتوزيع المضامين متعددة الوسائط عن أهمية أفكار ومقترحات علماء التربية والتعليم الخاصة بمحو الأمية الاتصالية والإعلامية، بحيث تدرس مقررات في مراحل التعليم المختلفة تنمي قدرات الأفراد على التعامل النقدي مع مضامين الإعلام، والكشف عن الأخبار الكاذبة والبحث عن الحقائق، وهي مهمة تتطلب جمهور نشط وواعٍ ولديه الوقت للتدقيق والتفكير قبل أن يوزع ما يصل إليه من معلومات وصور مضللة عبر منصات وسائل التواصل المحتلفة.
في الأخير، أتصور أن كل الأفكار والاجتهادات سواء كانت إعلامية أو تربوية مهمة ومفيدة لمواجهات إشكاليات ما بعد الحقيقة، لكن تبقى أهمية علاج مشكلات التعليم والعدالة والمساواة في المجتمع، والتي تؤدي إلى الانقسام والاستقطاب الحاد في كثير من المجتمعات، والذي يتخذ إشكالاً أيديولوجية لا تخلو في بعض الأحيان من عنصرية بغيضة - الحركات الشعبوية والجماعات الإرهابية على سبيل المثال - تعرقل من دون شك إمكانية الاتفاق العام حول معايير الحكم على الحقيقة، وعلى صدق الأخبار والمعلومات، وتعريف الصالح العام، وبالتالي الاتفاق حوله، فالحقيقة في أحد معانيها هي الاتفاق الموضوعي على شروط إنتاج المعرفة. ولا شك أن أي اتفاق مرتبط بتوافر ظروف وشروط اجتماعية وثقافية محددة، وإذا غابت هذه الظروف يتسع المجال للتقيمات الشخصية والآراء المختلفة وتصبح الحقيقة وجهة نظر أو مسألة نسبية يدور حولها نقاش وجدال لا ينتهي.