وفاء العمير
قبل أن يتمكن المجرم من مهاجمة ريم كانت قد سبقته، وهوت على رأسه بمزهرية كانت موضوعة على الطاولة بالقرب منها. لكن رأسه كانت قوية جدا، فلم تتأثر لدرجة أن يفقد وعيه، وارتسمت على وجهه ابتسامة مميتة، جعلت الدم يتجمد في جسدها. كانت عيناه تلمعان بقوة وخبث، وعضلتا وجنتيه ترتفعان، وتنكمشان أسفل عينيه، اللتين اتخذتا هيئة قاربين صغيرين. ابتعدتْ عنه وقد اعتراها شعور بالهلع الشديد، وتراجعت خطوات نحو الخلف. سألته بلهجة تنم عن الرعب: لماذا تفعل ذلك؟ ما الضرر الذي سببتُه لك؟
تقدّمَ منها خطوة واسعة بطيئة، نظرا لضخامة حجمه، وأجابها بمكر: أنت لم تسببي لي أي ضرر، ولكن على ما يبدو فإن وجودك على قيد الحياة يزعج أحدهم.
اكتنفها شعور غامر بالدهشة وعدم التصديق، وسألته: عمّن تتحدث؟
قال: عليكِ أن تكتشفي ذلك بنفسك.
ثم مدّ يديه الضخمتين القاسيتين محاولا القبض على عنقها، إلا أنها بما تتمتع به من سرعة الحركة، تمكنت من الهروب، وهرولت راكضة باتجاه الدرج، وقفزت كل درجتين معا، حتى بلغت غرفتها في الطابق الأول. شعر المجرم بخيبة الأمل، واعترف لنفسه بأنها تتقدمه، فهي كالغزالة في خفّتها، بينما كان كالدب في ضخامته وبطء حركته. ثم خاطب نفسه يجب عليه أن يعالج هذا الأمر من دون إبطاء، وإلا فإنه لن يحرز النجاح الذي يبتغيه. لقد ذكر له الرجل الذي استأجره لقتلها، إنها امرأة وحيدة، وضعيفة، وتكاد تكون يائسة. فهل كذب عليه؟ تساءل بينما يرتقي الدرج وهو يزفر الهواء من فمه وأنفه بصعوبة، وصدره يعلو ويهبط شاعرا بالتعب، كما لو أنه سار مسافات طويلة. أدرك أن المهمة لن تكون سهلة كما توقعها. هذه المرأة كاللبؤة، لن تستسلم حسبما كان يأمل. لقد اعتمد على قوة بنيته الجسدية في التغلب عليها، كان مزهوا وفخورا بالعضلات التي تملأ جسده كالمصارعين. هل كان مخطئا؟ أم أنه استهان بقدرات تلك المرأة، ولم يأخذها على محمل الجد.
دخلت ريم حجرة نومها، وأغلقت الباب الخشبي بالمفتاح، ثم وضعت مسند الكرسي تحت مقبض الباب كي يستحيل على المجرم اقتحامه. لم تستطع إلا أن تشعر بأنها كانت كالقطة المحشورة في الزاوية، تعجز عن التخلص من الخطر المحدق بها. لم يجل بخاطرها في أية لحظة أنها قد تتعرض لمثل هذا.
كانت وحيدة، زوجها مسافر، لا أهل ولا صديقات يفتقدونها، ويتصلون بها لتفقد أحوالها، من المؤكد أنها كانت ستستنجد بهم على الفور. لا أحد سوى نفسها، لطالما كانت كذلك، تتفرس في وحدتها كما لو أنها مرآة تمعن النظر فيها عمدا. تلك الوحدة مكّنتها من أن تتعلم الاعتماد على نفسها، كانت بمثابة التدريب اليومي لإيجاد طرق عديدة تمضي عبرها في الحياة، غير مُهددة بالنفي خارجها، على العكس من أناس كثيرين، يستحوذ اليأس عليهم لأتفه الأمور.
جالت حولها في الغرفة، وفكرت، لم يكن يوجد منفذ للهروب سوى النافذة، والنافذة محمية بالقضبان الحديدية. ماذا بوسعها أن تفعل؟ لقد رأت موتها أمامها. المجرم سيقضي عليها لا محالة. ستكون مثل الفأر في المصيدة. خافت بشدة، وفرّت الأفكار من رأسها. بدت من دون حيلة، ضعيفة للدرجة التي كانت تمقتها، وتكافح طيلة حياتها كي لا تظهر بهذا الضعف. إنها تعلم أن الضعيف يُداس بالأقدام دون رحمة. أدركت أن لا خيار أمامها سوى مواجهة المجرم، مهما كانت النتيجة. لكن أنّى لها أن تفعل، وهو بمثل هذه الضخامة، كأنه جبل؟ سوف يحطّمها، سيكون ذلك بالنسبة له أسهل من شرب الماء. كم تفتقد زوجها وهي في هذه الحالة العصيبة، كان يمكن أن يقاتل من أجلها، لكن هل سيفعل ذلك حقا؟ ومنذ متى كان يدافع عنها إزاء أي شيء؟ ألم يتركها دائما وشأنها، إنهما يعيشان حياتين منفصلتين، رغم وجودهما تحت سقف واحد.
فجأة شاهدت مقبض الباب يتحرك بعنف، فخشيت أن يتمكن القاتل من تحطيم الباب، ثم تناهى إليها صوته يقول لها ببرود شرس: عزيزتي، يجب عليك أن تستسلمي ما دامت الفرصة متاحة لك، سوف أضع ذلك في اعتباري، سأقتلك بسرعة وبدون ألم. لا فائدة من إبداء المقاومة، كل ما تقومين به هو إطالة أمد عذابك، كوني فتاة مطيعة، واسمعي الكلام.
لم تكن يوما فتاة مطيعة. يتحدث معها كما لو كانت طفلة صغيرة، كما لو كانت بلا رأي ولا قوة، مطبوعة على الانقياد والرضوخ. لا يعرف ذلك المغرور كم كابدت لكي تحول دون أن تكون تلك المرأة التي يتحدث عنها. سمعته يقول وكأنه يستمتع بالموقف: إنني أسمع، أيتها المسكينة، صوت أنفاسك اللاهثة كنيران الحرائق. ها ها ها، تمالكي أعصابك، لن أقتلك في هذه اللحظة. أنت محظوظة، هل تدرين؟ إذ إنني لا أغامر أبدا بتأجيل مهامي الجسيمة مع ضحاياي، لكنني أفعل ذلك معك، لأنه تبين لي أنك امرأة مختلفة، تحاربين حتى الرمق الأخير من حياتك. يؤسفني أن ذلك كله بلا جدوى. لقد اعتبرتك ميتة، منذ اللحظة التي أُوكل إلي بمهمة قتلك. لستُ سعيدا بذلك أعترف لك، لكنه عملي على أي حال، الذي أعيش منه.
تخيلتْ أنه يضع كتفه الثقيلة على الباب، مائلا عليه بجسده العملاق، واضعا ساقا خلف الأخرى بنوع من الارتياح، كما لو أنه في منزله، من دون مخاطر، وليس على وشك ارتكاب جريمة. تساءلت كيف يستطيع مثل هؤلاء الوحوش المضي بحياتهم، ينامون كل ليلة قريري العين، دون كوابيس تهجم عليهم. سألها: لماذا تتشبثين بالحياة، هل لديك سبب، أو أسباب تستحق ذلك؟ لستُ أتخيلك تتحرقين شوقا لانبلاج فجر كل يوم، مثل امرأة سعيدة، امرأة تحب.
ورغم أنها لا تحب تبادل الحديث مع من ينوي قتلها، إلا أنها أجابته بصوت لم تستطع إزالة الذعر منه: ربما يعود تشبثي بالحياة إلى ما نمتلكه جميعا، بما في ذلك الحيوانات أيضاً، وهو غريزة حب البقاء.
قال: نعم، أوافقك الرأي تماماً، إنها غريزة ما من سبيل إلى إنكارها، إضافة إلى كونها شديدة الغموض. لكن هل من سبب آخر؟ أعني أبناء تعيشين من أجلهم؟ مال وفير ترغبين في إنفاقه ببذخ.
قالت مؤكدة: لا شيء من ذلك إطلاقا. أنا وزوجي لم نرزق بالأبناء، وليس لدي من المال ما يكفي لإنفاقه ببذخ.
قال بسخرية: يستحسن منذ هذه اللحظة أن تضيفي إلى حبك للحياة سببا آخر.
قالت: ما هو؟
أجاب: الانتقام من الشخص الذي استأجرني لقتلك.
ثم فجأة شرع يدفع الباب بقوة مرات عدّة، وكانت هي تحدق في الباب بعينين متسعتين ذاهلتين، يكاد قلبها يكف عن الخفقان، حائرة ماذا تفعل؟ في النهاية استطاع أن يكسر الباب، واندفع داخلا إلى الحجرة كالثور الهائج. عندئذ رفعت الأبجورة التي كانت بجوار السرير، وضربته بها على جمجمة رأسه. سقط من فوره على السجادة الانكليزية المفروشة على الأرض، ثم ضربته مرة أخرى، حتى فقد وعيه هذه المرة. ربطت يديه وقدميه، وانتظرت حتى أفاق. كان مدهوشا، ولأول مرة تنبثق نظرات الخوف في عينيه. كانت تمسك السكين بيدها، وتلوّح بها في وجهه. قال: ماذا ستفعلين؟ هل ستقتلينني؟
جلستْ على المقعد المقابل له، بينما هو منطرح على الأرض، موثق اليدين والقدمين، كأنه خروف مُعدّ للذبح. قالت له: لن أفعل قبل أن تخبرني، من الذي استأجرك لقتلي، ليس لديّ أعداء.
أجابها: هل أنت واثقة من ذلك؟ في بعض الأحيان يكون ألدّ أعدائنا هم أقرب المقربين إلينا.
قالت: ماذا تقصد؟
أجاب: هل أنا مضطر لذكر اسمه؟
قالت: إن لم تفعل سأقطع جسدك إلى قطع صغيرة، وستشعر بألم لم تشعر بمثله يوما. ولن أستعجل موتك، تأكد من ذلك. والآن قل لي من هو؟
صمت لبرهة يفكر بينما يحملق بها بعينين ثاقبتين كعيني الذئب، ثم قال: لا أبالي أن أخبرتك، إنه زوجك، هو من يريد أن يراك ميتة، لقد دفع لي مبلغا مجزيا من المال لأجل ذلك.
شعرتْ بالصدمة، إنها تعلم بعدم وجود حب بينها وبين زوجها، لا عاطفة متدفقة، ولا حتى سطحية، لكنها لم تتصور أن يرغب في قتلها، ليس إلى هذا الحد.
أضاف المجرم وقد لاحظ شرودها: أخبرني زوجك إنه سيتصل بي على هاتفي الليلة، كي يتأكد من انتهاء الأمر.
سألته: متى سيتصل بك؟
قال وهو ينظر إلى ساعته: لن يتأخر، سوف يتصل في أية لحظة.
قالت: عندما يفعل أريدك أن تخبره بأنك أتممت الأمر. سأضع السكين على رقبتك، فإن بدر منك شيء آخر غير ذلك، جززتُ عنقك.
ارتعب، وأحسّ بأنها جادة في تهديدها. انقضى بعض الوقت في انتظار وصول المكالمة. كانت في مقعدها تحملق بالوحش الذي يسند ظهره إلى الجدار عندما رن هاتفه المحمول. نهضت وأخرجت الهاتف من جيب قميصه. ضغطت على زر الاتصال، وقرّبت الهاتف من أذنه. هي أيضاً أنصتت إلى المتحدث الذي كان زوجها، سأل المجرمَ: هل تمّ الأمر؟
أجابه: نعم، كل شيء انقضى على خير ما يرام، وقد تخلصتُ من الجثة، كما اتفقنا.
قال زوجها له: سأرسل لك في الغد بقية أجرك، أما في الوقت الراهن فعليك أن تتوارى عن الأنظار.
ثم انتهت المكالمة. قال المجرم لها: سيأتي إلى هنا بعد قليل، لكي يتأكد بنفسه أنه لم يعد لك وجود في حياته. كم يكرهك! لقد بدا ذلك جليا لي عندما كنا نجري الاتفاق بيننا.
ـ سأكون بانتظاره. لا تقلق. قالت، ثم وضعت شريطا لاصقا على فمه، وأطفأت نور الغرفة، لكي يعتقد زوجها عندما يقترب من المنزل أنه خال، لا أحد فيه، ثم غادرت الغرفة بعد أن أوصدت الباب خلفها. توجهت إلى صندوق الكهرباء، وفصلت التيار، فسبح المنزل في ظلام دامس، ثم جلست في الصالة لحين وصول زوجها.
لم يدم الوقت طويلا، يبدو أن زوجها جاء على جناحي الفرح. فتح الباب بهدوء، وحاول إضاءة نور الصالة، لكن مفتاح الإنارة كان معطلا. بدون أن ينتبه عاجلته ريم بضربة على رأسه بواسطة الأبجورة نفسها، فوقع على أثرها فاقدا الوعي، وانبجست بضع قطرات من الدم على جانب رأسه. حالما أفاق وجد نفسه ممددا على الأرض في غرفة نومه، رأسه يوجعه، تلمس قطرات الدم الجافة خلف أذنه، بجانبه الرجل الذي كان عليه مهمة قتل زوجته. نظر الزوج حوله بذهن مشتت، لا يفهم ما حدث، فوقعت عيناه على زوجته وهي تحدجه بنظرات شزرة، وتمسك بيدها سكينا حادة. لم يصدق عينيه، والتفت نحو المجرم، الذي أشاح برأسه وهو يشعر بالإحراج والخجل من إخفاقه في مهمته. أخيرا قالت ريم لزوجها: لقد توقعتُ كل شيء، إلا أن تسعى لقتلي. لماذا؟ ما الذي اقترفتُه بحقك؟
لم يردّ بشيء، وظل صامتا، فصرختْ به: لماذا؟ انطق أيها السافل.
عندما شعر بأنه ملزم بقول الحقيقة، أجابها: ألم تكتشفي بعد حقيقة مشاعري تجاهك، كل هذا الوقت، كم أنت غبية!
لطمته على وجهه، طالعها بدهشة، ولم تكن هي أقل دهشة منه تجاه جرأتها، لم تظن في أي يوم أن مثل هذا السلوك سوف يصدر منها.
قال بحقد: أنا أكرهك. لم أكره شيئا في حياتي مثل كراهيتي لك.
سألته بجزع: لماذا لم تطلقني إذن؟ كان ذلك سيكون أسهل بكثير.
ـ لم أرد أن يكون لك أي وجود على وجه الأرض. قال بصوت كأنه فحيح الأفعى.
ـ أنت مريض. إنني لم أفعل شيئا لكي تضمر لي كل هذا الشرّ.
ـ مجرد وجودك على قيد الحياة يجعل قلبي يمتلئ حقدا. قال بصوت خافت بارد كصقيع الشتاء.
ـ هكذا إذن؟ سيكون أمامك وقت كافٍ وأنت في السجن، كي تفكر مليا حيال مشاعرك هذه. هل تكرهني أنا أم تكره نفسك، وتكره العالم، وكل شيء جميل من حولك. أطلْ التفكير بذلك بينما تتعفن في زنزانتك، أيها النذل.
ثم اتجهت صوب الهاتف، واتصلت بالشرطة، وهي تشعر بأنها امرأة قوية، لا تنكسر.