جمال العمير
العراق مهد الحضارات وبوابة اليوم هو أقرب إلى الجحيم - هي أرض النفط والزراعة والمياه الوفيرة على مر العصور أما الآن فهي موطن الجوع والمرض والفقر تضم في جنباتها 12 ألف موقع أثري ولا ترى فيها سائحاً في أرجائها تخزن في باطنها 150 مليار برميل نفط غير أن ديونها تجاوزت 132 مليار دولار ليصبح العراق على شفير الهاوية بعد أن كان يجري فيه نهران عظيمان هما سر حضارته وثروته وغناه أما اليوم فلم يعد يجري بالعراق سوى نهر الفساد فهل سيتمكن العراقيون من تجفيف منابعه
لنتجاوز الحضارات القديمة ولنعد للتاريخ الحديث؟ فقد استقلت العراق عن بريطانيا عام 1932 استقلالاً ناقصاً ظل مرتبطاً بمعاهدات اقتصادية احتكرت جزءاً كبيراً من ثروته النفطية لتصبح دولة ضعيفة واقتصاداً منهاراً لكن العراقيين رفضوا الاستسلام للواقع فأسسوا عام 1950 ما عرف (بمجلس إعمار العراق) ووضعوا مشاريع زراعية وصناعية لأكثر من 30 عاماً. وفي عام 1952 انتزع العراقيون نصف ثروتهم النفطية فارتفعت إيراداتهم من النفط من 3 ملايين دينار عام 1949 إلى 50 مليون دينار عام 1953 بموارد طبيعية فزادت عجلة الاقتصاد بسرعة.
عام 1952 بلغ حجم الديون المترتبة على بريطانيا 50 مليون دولار وفي حينها استدعت الخارجية العراقية السفير البريطاني لدى بغداد ووبخته وطالبت الحكومة العراقية نظيرتها البريطانية بسداد الديون فوراً وفي عام 1956بلغ حجم الصادرات من القمح إلى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا 3 ملايين طن.
بنى العراقيون سد الثرثار على نهر دجلة فودعت بغداد فيضاناتها إلى الأبد ثم سد الحبانية لكبح جماح الفرات الهادر وتتالت مشاريع صناعة الأسمنت والسكر والنفط والنسيج والغاز ومحطات لتوليد الطاقة الكهربائية ومعامل للحديد والصلب وبرامج لتطوير الطاقة النووية طموح وصل إلى عنان السماء.
عام 1972 قام الرئيس العراقي أحمد حسن البكر بتأميم بعض شركات النفط لينفجر النمو الاقتصادي بمعدل قياسي بلغ 8% سنوياً وازداد الإنتاج الزراعي بأكثر من مليار دولار بين عام 1960 إلى 1980 أما الإنتاج الصناعي فنما بسرعة مذهلة من 279 مليون دولار إلى مليارين و401 مليون دولار ويحقق الإنتاج المحلي 53 مليون دولار ويتربع على عرش اقتصاديات المنطقة وتطورت السياحة ليبلغ عدد السياج العراقيين عام 1971 في أوروبا ولبنان 70 ألف سائح مقارنة بعدد السكان آنذاك والبالغ 8 ملايين ونصف المليون نسمة هذا إلى جانب التعليم فأصبح يضاهي الدول الاسكندنافية عام 1977 ومستوى الدخل الفردي وصل إلى 7000 دولار سنوياً وهو الثالث عالمياً بعد الولايات المتحدة وبريطانيا.
عام (1980) دخلت العراق في حرب مع إيران استمرت ثماني سنوات لتركع إيران صاغرة تقبل بوقف إطلاق النار بعد أن صرح الخميني قائلاً (كنت أتمنى أن أتجرع السم على أني أقبل وقف إطلاق النار). لكن ترتب على الحرب خسائر مادية بلغت 342 مليار دولار وتراكم الدين الخارجي ليربو على 77 ملياردولار.
ثم جاء غزو العراق للكويت ليفرض على العراق حصاراً استمر 13 عاماً ليصبح أصحاب الاقتصاد الأقوى يموتون جوعاً وعاد المزارع العراقي ليحرث أرضه بمحراث أجداده البابليين حيث بلغت خسارة بناه التحتية أكثر من 200 مليار دولار.
عام 2003 شن التحالف بزعامة أمريكا حرباً على العراق بحجة وجود أسلحة دمار شامل وانتهت الدولة وعمت الفوضى البلاد بعد أن أعطت أمريكا الضوء الأخضر لإيران بالتدخل بشؤون العراق الداخلية.
عام 2006 اندلع عنف طائفي وغذته ميلشيا إيران الطائفية استمر سنتين وأودى بحياة أكثر من 50 ألف شخص وسجل العراق أعلى سلم فساد في تاريخه. عام 2011 انسحب الأمريكيون من العراق مدعية استتباب الأمن في العراق ليتركوا خلفهم جيشاً من الفاسدين احتل العراق من شماله إلى جنوبه فساد لم تسلم منه حتى أسماك دجلة والفرات.
300 ألف برميل تم تهريبها من العراق يومياً بإشراف عمار الحكيم منذ عام 2003 بعائدات يومية بلغت 15 مليون دولار وليدخل العراق في العهد الذهبي للفساد خلال حكم نور المالكي. فاسدون يمتلكون السلطة والنفوذ ومشاريع وهمية بمليارات الدولارات: خصص مليار دولار لبناء مشفى عسكري وحتى الآن المشفى لم ير النور ولن يراه - خمسون ألف وظيفة وهمية وخمسون ألف جندي فضائي تتقاضى رواتبهم جنود مجهولة - 30 مليار دولار خصصت من أجل توليد الكهرباء والنتيجة 8 ساعات إضاءة باليوم فقط - 200 مليون دولار خصصت للمشروع رقم ( 1) لبناء مدارس العراق, والتلاميذ ما يزالون يفترشون الطرقات. لكن أشهر صفقة فساد كانت بـ232 مليون دولار لشراء أجهزة لكشف المتفجرات لتكون الكارثة بالأرواح والأموال معاً.
عدد قضايا الفساد بلغ في ربع سنة فقط 9832 قضية. تهريب مخدرات وعملة وغسل أموال فاسدون مسؤولون كثر فاحت روائحهم داخل البلاد وخارجها ثم جاءت الفضيحة الكبرى بـ 149 مليار دولار أنفقت على تسليح الجيش العراقي. تنظيم داعش اجتاح ثلث البلاد وليتبين أن المليارات صرفت على عقود وأسلحة فاسدة وجنود لا وجود لهم. فساد على فساد كبد الاقتصاد 800 مليار دولار في بلد يرزح ربع سكانه تحت خط الفقر وليجعله على قائمة الفاسدين في العالم وليتحول اقتصاده إلى اقتصاد ريعي يسهم النفط فيه بأكثر من 95% من دخل البلاد.
عام 1980 قدم العراق للدول الفقيرة مساعدة بقيمة 743 مليون دولار يحتاج اليوم إلى 88 مليار دولار فقط ليبني ما دمرته الحرب ولو استعاد العراق ثروته المنهوبة إلى اليوم لما أصبح العراقي غنياً فقط بل ستكون العراق قادرة على مساعدة الدول العربية الشقيقة.
منذ عام 2003 إلى الآن لم يظهر مسؤول عراقي الانتماء ليقول للفاسدين المرتبطين بالمشروع الفارسي كفى هدراً وفساداً هذه عراقنا وليبنى بسواعد رجالنا. قديماً عرف العراق ببلاد الرافدَين، نهرين كانا سر حضارته وثروته وغناه، أما اليوم فلم يجر بالعراق سوى نهر واحد هو نهر الفساد لا أعرف ما إذا كان العراقيون قادرين على تجفيف منابعه!