يحفل تاريخنا العريق بالملاحم البطولية والمآثر الوطنية، فبلادنا عبر تاريخها المجيد مرت بمراحل تاريخية باسلة سجل فيها قادتها ورجالها أروع صور البذل والصمود والعطاء، مآثر تسجل بمداد من الفخر وتُروى للقاصي والداني، نستذكرها لنسمو بها شموخًا واعتزازًا، وندونها لنزداد بها ولاء وانتماء. ومن هذه المآثر الوطنية ملحمة تأسيس الدولة السعودية الأولى التي تمت على يد الإمام محمد بن سعود بن مقرن عام 1139هـ/1727م، وقد إجمع المؤرخون بعد مقاربة الأحداث التاريخية الواقعة في ذلك العام على الترجيح بأن تاريخ التأسيس كان تحديدًا في 22 نوفمبر 1727م/ الموافق 30 جمادى الآخرة 1139هـ.
الجدير بالذكر أن الإمام محمد بن سعود تولى الحكم بعد اضطرابات عانت فيها الدرعية من أزمات داخلية عدة منها انتشار وباء الطاعون وهلاك الكثير من الأهالي، وقيام نزاع داخلي على السلطة بين عمه مقرن بن محمد وأمير الدرعية زيد بن مرخان، وقد وقف الإمام بشجاعة ووفاء فرد الحق إلى نصابه واقتص من المعتدي وناصر أمير الدرعية زيد بن مرخان، ولكن لم يلبث الأمير زيد طويلاً في الحكم فقد غدر به أمير العيينة في أعقاب محاولة زيد الهجوم على العيينة.
عندها بايع أهالي الدرعية الإمام محمد بن سعود بالحكم عام 1139هـ/1727م، وبدأت في عهده ملحمة التأسيس والتوحيد، امتلك الإمام محمد بن سعود صفات قيادية ومهارة عسكرية، ففي عهد والده تمكن من الدفاع عن بلدته الدرعية وصد هجومًا لزعيم الأحساء سعدون بن محمد ودحر الجيوش المعتدية. كان الإمام محمد بن سعود مستقلاً في حكمه، قويًا في قيادته فلم يخضع لأي قوة سياسية خارجية كحال بعض البلدان النجدية التي كان معظمها يدين بالولاء لزعماء الأحساء، أما الدرعية فامتازت بالاستقلال التام في ظل الحكم السعودي.
عُرف عن الإمام محمد بن سعود حسن الخلق وسداد الرأي، قال عنه المؤرخ ابن غنام كان «بحسن السيرة معروفًا، وبالوفاء وحسن المعاملة موصوفًا، مشهورًا بذلك دون من هنالك»، وقد كان الإمام محمد بن سعود حريصًا على الأمن والاستقرار في نجد، وفيًا لجيرانه يمد يد العون والمساعدة لهم عند الملمات، ساعيًا لاستقرار أحوالهم الداخلية كما حدث في نصرته لأمير الرياض دهام بن دواس عام 1151هـ/ 1738م عندما ثار عليه بعض المعارضين له، فارسل الإمام محمد قواته لنجدته حتى استقرت له الأمور. والمتأمل لهذه الحادثة يجد فيها دلالة بارزة على مكانة الدرعية السياسية والعسكرية وقوتها المتنامية وقدرتها على ضبط الأوضاع الأمنية في نجد.
ومما يُذكر في سيرة الإمام محمد بن سعود حبه للخلوة والتأمل وقد صقل ذلك شخصيته فامتلك رؤية مستقبلية متأنية مكنته من تحقيق الوحدة والاستقرار لبلاده، فازدهرت الدرعية في عهده وامتازت بالاستقرار السياسي والرخاء الاقتصادي حتى أصبحت موئلاً لعدد من أسر حاضرة نجد وباديتها، وفي عهده قدم الشيخ محمد بن عبدالوهاب ووجد النصرة والتأييد من الإمام محمد بن سعود فاستقر في كنف بلاده.
استمر حكم الإمام محمد بن سعود ما يقارب من أربعين عامًا، وبعد فاته في عام 1179هـ/1765م، تولى أبناؤه وأحفاده الحكم من بعده، وبلغت الدولة السعودية الأولى اتساعًا جغرافيًا وسياسيًا واضحًا، إذ توحدت تحت لوائها معظم مناطق الجزيرة العربية في منظومة وطنية عربية فريدة قل نظيرها في التاريخ.
إن استحضار يوم التأسيس واستذكار سيرة الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى هو في واقع الأمر استحضار تاريخي للعمق المجيد للتاريخ السعودي، واستدعاء الذاكرة التاريخية بمثل هذه المناسبات والاحتفاء بها يزيد من الوعي التاريخي لدينا كموطنين تحت سماء هذا الوطن الغالي، كما أن إبرازها تاريخيًا يفتح أبواب التاريخ أمام شبابنا ويجلي لهم آفاقه المنسية التي تعمق في نفوسهم الانتماء والولاء، ولا ريب أن استذكار قصص الصمود والكفاح لأسلافنا هو إدراك لقيمة الوطن ولضرورة المحافظة على مكتسباتنا الوطنية التي ننعم بها، فيوم التأسيس شاهد حي على التضحيات المخلصة والمضنية التي بذلها قادتنا من أجل توحيد بلادنا وهو الأساس الذي تفيأت ظلاله الدولة السعودية الثانية والثالثة فسارت على خطاها وارتسمت نهجها لتحقيق الوحدة لهذا الكيان الشامخ، وخلاصة القول إن يوم التأسيس هو من المآثر الوطنية التي يحق لنا أن نسمو ونتفاخر بها.
** **
د. منال بنت عواد المريطب - أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة الملك عبدالعزيز - الحاصلة على جائزة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز لدراسات وبحوث الجزيرة العربية