إن الضبابية التاريخية هي عدم قدرة البعض على قراءة الاحداث التاريخية بصورة جيدة مما يؤدي بهم إلى عدم الوصول إلى الحقيقة التاريخية وقد يعود ذلك لعدة عوامل منها الذاتية بحيث تطغى في بعض الأحيان الميول أو القناعات الدينية أو الانتماء الطبقي أو..... على كاتب الحدث التاريخي فيكتب بسطحية، ولهذا فليس كل من كتب في التاريخ هو مؤرخ بل قد يكون شاهد عيان دون الأحداث بدون سبر لأغوارها.
فالمؤرخ لابد وأن يكون على قدر كبير من المسؤولية عند الكتابة بل وشديد التحقق والنقد من المعطيات واحداثها التاريخية ويتناولها بمعيار الحكمة والبصيرة بحيث يرى ابعادها وهو بذلك يبحث عن المعقولية والأسباب المحركة للوقائع، فاذا وجد أن من سبقوه قد تاهوا أو ابتعدوا عن الحقيقة التاريخية فواجبه أن يظهرها مع الدلائل التي ترجح ما ذهب إليه وهو بذلك يزيل الضبابية التي أحاطت بالحدث التاريخي ويأخذ القارئ إلى الحقيقة التاريخية قدر الإمكان.
هذه المقدمة هي لفهم تناولنا لحدث تاريخي هام وهو تاريخ تأسيس الدولة السعودية الأولى والذي للأسف أرخ له البعض في ظل ضبابية عدم الدقة أو حتى من خلفوهم واعتمدوا على كتاباتهم دون قراءة جيدة ودقيقة للتاريخ السياسي لهذه الدولة.
تولى الإمام محمد بن سعود عام 1139هـ/1727م حكم إمارة الدرعية وبدأ ما عرف في التاريخ بالدولة السعودية الأولى كان حكم الدرعية حكمة وراثية في أسرة آل سعود منذ تولي جدهم الأكبر مانع المريدي حكم الدرعية في عام 850هـ/ 1446م وهو الجد الثامن للإمام محمد بن سعود.
امتد حكم الإمام محمد بن س عود قرابة الأربعين عاما منذ توليه حكم إمارة الدرعية عام 1139هـ/ 1727م حتى وفاته في عام 1179هـ/ 1765م شهدت فيه الدرعية تطورات واحداثا مفصلية نقلتها من مفهوم المدينة - الدولة إلى الدولة صاحبة النفوذ الأكبر في كامل شبه الجزيرة العربية .سعى الإمام سعود بن محمد إلى استثمار ما بدأه والده من رعاية علمية وترسيخ لمكانة الدرعية بين البلدات النجدية الأخرى وخاصة المجاورة لها مثل حريملاء والرياض والعيينة والتي كانت تعتبر آنذاك اقوى الامارات النجدية. وبدأت تسيطر عليه فكرة مشروعه التأسيسي لإقامة دولة عربية خالصة اساسها الإسلام المعتدل تعيد المكانة لشبه الجزيرة العربية موطن العرب ومهد الإسلام بعيدا عن الولاءات والتبعية لنفوذ العناصر غير العربية خاصة مع سيطرة الدولة العثمانية على معظم الأقاليم والبلدان العربية.
اتبع الإمام محمد بن سعود سياسات ما بين السلمية والعربية لتأمين الاستقرار والأمن داخل الدرعية وما حولها وتباينت سياساته تلك مع حكام البلدات النجدية المجاورة بحسب ظروف وتطورات أوضاعها. كان الإمام محمد يواصل اعماله التأسيسية بجعل الدرعية مركزة علمية متميزة في نجد في تلك الأثناء ظهرت دعوة للشيخ محمد بن عبدالوهاب في حريملاء ثم العيينة التي دعا فيها إلى منهج السلف الصالح والدين القويم ولما وجدت دعوة الشيخ صدى إيجابية في نجد وكثر الوافدون عليه في بلدته حريملاء ثم العيينة بعد انتقاله اليها وكان حاكمها آنذاك عثمان معمر الذي أمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب بالخروج منها تلبية لمطلب حاكم الاحساء سليمان الخالدي، وكان ممن يفدون على الشيخ محمد بن عبد الوهاب أخوَيّ الإمام محمد بن سعود مشاري وثنيان وعدد من علماء الدرعية ومنهم ابن سويلم فدار الحديث في قصر الإمام محمد عن ما يعانيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب من مضايقات في سبيل نشر دعوته من قبل حكام بني خالد وابن معمر فرأى الإمام محمد بن سعود وهو يسعى إلى أن تكون الدرعية المركز السياسي والعلمي في وسط شبه الجزيرة العربية أن يدعو الشيخ محمد إلى الدرعية لمناصرته وحمايته.
انتقل الشيخ محمد بن عبد الوهاب إلى الدرعية في عام 1157هـ/1744م- بناء على دعوة الإمام محمد بن سعود- وهو العام الذي تمت فيه المبايعة بينهما على نصرة التوحيد ويبدو أن ميول بعض المؤرخين الدينية وحماسهم قد دفعهم إلى اعتبار ذلك العام هو عام بداية تأسيس الدولة السعودية الأولى فغلبت على كتاباتهم الضبابية وعدم الدقة وغابت عنهم حقيقة أن تاريخ التأسيس السياسي للدولة كان منذ عام 1139هـ/ 1727م أي قبل المبايعة بما يقارب سبعة عشر عاماً.
اعتبر الإمام محمد بن سعود في نظر المؤرخين المنصفين المؤسس الحقيقي للدولة السعودية لأنه وضع الأسس الراسخة لتأسيسها وسعى لتوحيد دولة عربية إسلامية قوية على مساحات كبيرة من شبه جزيرة العرب واحتضن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ووفر لها الحماية والبيئة الآمنة طوال فترة حكمه التي امتدت قرابة الأربعين عاما هذه الدولة التي أصبحت اليوم في القرن الخامس عشر الهجري الواحد والعشرين الميلادي بعد إعادة وحدتها على يد حفيده الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود من الدول المؤثرة سياسيا ودينيا واقتصاديا بين دول العالم المعاصرة.
** **
أ.د. سلوى بنت سعد الغالبي - أستاذ التاريخ الحديث والعلاقات الدولية بجامعة الملك عبدالعزيز سابقاً وحالياً مدير مركز البحر الأحمر وغرب المملكة العربية السعودية التابع لدارة الملك عبدالعزيز