د.سالم الكتبي
يعلم الجميع مدى سوء أزمة لبنان الحالية، ويعلمون كذلك دور الأطراف الخارجية ووكلائها في الداخل اللبناني في اندلاع هذه الأزمة، وبالتالي فإن تحذير البنك الدولي من أن الأزمة الاقتصادية في لبنان هي الأسوأ عالمياً منذ فترات طويلة، وأنها تهدِّد استقرار هذا البلد العربي على المدى البعيد، ليس مفاجئاً للمطّلعين على الشأن اللبناني في السنوات الأخيرة على الأقل، ولم يكن مفاجئاً لهم كذلك وصف البنك الدولي الأزمة في تقريره الأخير بأنها كساد متعمد، فالأدوار في لبنان متكررة ومعروفة، وحدود المسؤوليات عن الانجراف الحاصل في الأوضاع واضحة بدقة!
الأرقام التي تناولها تقرير البنك الدولي كارثية بكل المقاييس والمعايير، حيث تراجعت الإيرادات الحكومية اللبنانية في عام 2021 بنحو النصف، لتصل إلى نحو 7 % فقط من الناتج المحلي الإجمالي، الذي يتراجع بشكل كبير في وقت ترتفع فيه ديون الدولة اللبنانية لتصل إلى مستويات متدهورة للغاية، ما جعل لبنان يصبح في مقارنات مع الدول الفاشلة، ويبقى المحزن في الأمر كله أن الأسباب واضحة للجميع وأن من دبروا لتدمير هذا البلد العربي، معروفون أيضاً ولكن لا سبيل يلوح في الأفق لمحاسبة كل هؤلاء على جرائمهم بحق الدولة والشعب اللبناني.
الأخطر في الأزمة اللبنانية المتفاقمة، أنه رغم مرور أكثر من عامين على الأزمة الاقتصادية الراهنة، لا مؤشرات تلوح في الأفق تحدد مساراً لخروج آمن من النفق، فلا اتفاق أو توافق على خارطة طريق للتعاطي مع الوضع الاقتصادي، ولا تراجع عن الممارسات والخروقات التي فأقمت الأزمة وكانت وقوداً لها طيلة الفترة السابقة، وبالتالي فإن الضبابية تخيم على المستقبل المنظور للبنان ناهيك عن المستقبل البعيد.
المعضلة في كل ما يحدث تكمن في تأثيره العميق على مرتكزات المجتمع اللبناني واستقراره، فالأزمة قد دفعت فئات كثيرة إلى مربع الفقر، بل هناك تقارير إعلامية تتحدث عن لجوء بعض اللبنانيين للهجرة غير الشرعية هرباً من واقع بلادهم، ناهيك عن الأحداث اليومية التي تعكس تدهور أوضاع هذا البلد العربي.
وسط هذه الصورة الحالكة، تأتي الجهود الخليجية الرامية لإعادة الثقة بلبنان دولياً، من خلال مبادرة الكويت التي تمثِّل طوق إنقاذ مهم للبنان، وهي مبادرة تقوم - بحسب ما نشر - على ما وصف بالشروط ولكنها في الحقيقة أسس جوهرية تضمن استعادة السيادة اللبنانية، فوقف تهريب المخدرات وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية والتزام سياسة النأي بالنفس وكبح جماح «حزب الله» من تدخلاته العسكرية بالدول العربية ونزع السلاح غير الشرعي من الأحزاب وتطبيق قرارات الشرعية الدولية، كلها قضايا تتطلب السيطرة على الأمور والإمساك بزمامها أي باختصار جميعها من أعمال السيادة اللازمة لكل دولة، وبالتالي فهي تصب في مصلحة لبنان، الدولة والشعب، بالمقام الأول، فضلاً عن كونها تضمن عودة العلاقات الطبيعية بين لبنان ودول مجلس التعاون ومحيطه العربي والدولي.
طريق تعافي لبنان يكاد يكون معروفاً للكثيرين، ولكن الإشكالية تظل في معضلة غياب أو في أفضل الأحوال ازدواجية الولاء والانتماء التي تعانيها بعض الأطراف اللبنانية، وفي مقدمتها بطبيعة الحال «حزب الله» الذي يجاهر علناً بالتبعية والولاء للقيادة الإيرانية، ما يعني أن مصالح لبنان وشعبه تأتي بالنسبة للحزب في مرتبة تالية لمن يدين لهم بالولاء الفعلي ومن يبدي استعدادا للدفاع عن مصالحهم انطلاقاً من أراضي لبنان وتضحية بشعبه وأمنه واستقراره، وبالتالي يمكن توقّع عرقلة المبادرة الكويتية وأي مبادرة دولية أو إقليمية أخرى تخالف هوى حسن نصر الله وتابعيه على الساحة اللبنانية، لأنهم الطرف الذي تسبب بالأساس في وصول أحوال لبنان إلى ما آلت إليه، فضلاً عن رغبتهم في ارتهان لبنان لأزمة إقليمية أخرى يجري العمل على تسويتها في فيينا!
ما يحدث في لبنان اقتصادياً هو أحد أعراض سنوات طويلة من التدهور والتخريب السياسي والأمني المتعمد، والمسألة لا تتعلّق - كما يزعم البعض - بصراع سني شيعي، ولكنها تتمحور بالأساس حول هوية لبنان وشعبه، ومحاولة البعض طمس وجه لبنان التعددي القائم على التعايش والتسامح بين مختلف الطوائف والمذاهب والأديان، وتحويله من أيقونة إنسانية حضارية ورمز للثقافة والفنون إلى «ترس» يدور في إطار ما يُعرف ادّعاءً بمحور المقاومة، الذي لا ناقة للشعب اللبناني فيه ولا جمل!
الأسوأ في الأزمة اللبنانية أن التطورات الداخلية جميعها تخدم - بشكل مباشر أو غير مباشر - أجندة «حزب الله» وتعزّز موقعه سياسياً وأمنياً، وبالتالي فإن الحزب الإرهابي الذي يعد أحد أسباب التأزم الحاصل ويتم استنساخه في دول عربية أخرى كاليمن والعراق، لن يدعم أي حل للمأزق اللبناني الراهن، لأنه يدرك يقيناً أن خروج لبنان من أزمته المعقدة يبدأ بتفكيك كيان هذا الحزب وإنهاء الدور الذي يلعبه لمصلحة أطراف خارجية معلومة.