عبدالله سعد الغانم
اللغة العربية هي اللغة الحاكمة؛ لأنها لغة القرآن لغة الدين والشعائر، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (إنَّ اللغة العربية من الدين ومعرفتها فرضٌ واجبٌ، فإنَّ فهم الكتاب والسنة فرضٌ ولا يُفهم إلا باللغة العربية وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) لغةٌ اصطفاها الله من بين اللغات وأعزها، إذ نزل بها القرآن عربيًا على نبي عربي في أرضٍ عربية {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ} وعربيتنا ليست عصبيةً وإنما اعتزازٌ وفخرٌ بديننا الذي جاء بلسان عربي مبين وإلا فكثيرٌ من العلماء غير عربٍ فالوشيجة بيننا وبينهم هي الدين وتعلّموا العربية وتمكنوا منها وخدموها؛ لأنها لغة الدين الخاتم {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} وهنا الاعتزاز الكبير بلغتنا العربية، حيث اصطفاها ربنا سبحانه وتعالى لكتابه العظيم فقال سبحانه {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، ومتى ما علم المسلم أنَّ هذه اللغة العظيمة هي لغة الإسلام ولغة القرآن ازداد لها حبًا وبها فخرًا وعزًا وكفى بذلك شرفًا قال الشيخ بكر أبو زيد - رحمه الله- وقد كان من أعضاء هيئة كبار العلماء في بلادنا الغالية المباركة: اللغة العربية من شعائر الإسلام والتكلم بها حفظٌ لشعائر الإسلام؛ فيجب حفظ هذه الشعيرة) وأجمل من هذا قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- :تعلّموا العربية فإنها تُثبِّتُ العقل وتزيد في المروءة) وقال الشافعي - رحمه الله-: لقد تبحرت في اللغة العربية عشرين سنةً لكي أتقوى بها لفهم القرآن الكريم والسنة النبوية). وسمع الأعمش رجلاً يلحن في كلامه-أي يخطئ نحوًا- فقال: (من الذي يتكلم وقلبي منه يتألم) وكان أيوب السختياني - رحمه الله- إذا لحن استغفر الله. وقال الإمام ابن كثير- رحمه الله- عن اللغة العربية: أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها وأبينها وأوسعها وأكثرها تأديةً للمعاني التي تقوم بالنفوس فلهذا أُنزل أشرف الكتب بأشرف اللغات) هذه الآثار تجعل من المسلم أن يعتز بلغته العربية المجيدة ويفخر بها ولا يلام؛ لأنَّ هؤلاء الأعلام الذين كتبوا مادحين لغتنا العربية بأقوالٍ خلَّدها التاريخ وتناقلتها الناس عبر الأزمان ما كان ذلك لولا حفظ الله لها بحفظ القرآن {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} هذا القرآن الذياء على درجةٍ عاليةٍ عظيمةٍ من الفصاحة والبلاغة والبيان ساحرًا العقول وآسرًا القلوب ومؤثرًا في النفوس ولك أن تتنقل بين آياته وسوره لتغذّي روحك وقلبك وعقلك من هذا السحر الحلال والنهر الزلال وجاء فيه التواصل اللغوي الحضاري جليًا فربنا سبحانه يأمر موسى وهارون- عليهما السلام-بالذهاب إلى فرعون آمرًا إياهما {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} ألا ما أروعه من بيان! ويوصي نبيه محمدًا- صلى الله عليه وسلم- {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } يا لجمال هذه الوصية! حيث الرقي واللطف اللذان هما من أركان التواصل اللغوي الحضاري وحين تتوسع في التنقل بين آيات كتاب الله ستجد المزيد من الجمال البياني الباهر الساحر الذي تجلَّى فيها التواصل اللغوي الحضاري فحين بعث سليمان - عليه السلام- الهدهد بكتابٍ إلى بلقيس ملكة سبأ قالت{إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} خطابٌ قصيرٌ بأسلوبٍ جميلٌ أثَّر في نفس هذه الملكة ووصفته بالكريم والنتيجة إسلامُها وقومُها مع سليمان، ولأهمية الكلمة وأثرها ودور التواصل اللغوي الحضاري بين الناس هاهو ربنا سبحانه يقول {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ولك أنْ تعيش جمال الحوار بين إبراهيم - عليه السلام- وأبيه حيث يخاطبه بحنانٍ ودفءٍ وأدبٍ ورحمةٍ مكررًا عبارة {يَا أَبَتِ}ووصايا لقمان لابنه فيها من حنان الأبوة الشيء الكثير، حيث يفتتحها بلغةٍ حانيةٍ لطيفةٍ رقيقة {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ ...} وإن انتقلنا إلى المصدر التشريعي الثاني في ديننا الحنيف الحديث الشريف نجد من حسن البيان وجميل العبارة ما يهز أوتار القلوب ويلامس الأحاسيس ويروي المشاعر فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ من البيانِ لسحرا) وقال صلوات ربي وسلامه عليه أيضًا:( الكلمة الطيبة صدقة) وذات يوم قال: يا معاذ والله إني لأحبك، وقال لأُبي بن كعب: ليهنك العلم أبا المنذر وقال عن عبدالله بن عمر: نِعْمَ الرجلُ عبدُ الله وجاء لطفلٍ صغيرٍ متلطفًا معه بعد أن فقد عصفورًا له: يا أبا عمير ما فعل النغير، فمثل هذه الناذج القرآنية والنبوية التي جاءت بلغةٍ رشيقةٍ راقيةٍ منهجٌ لنا في الحياة يظهر فيها أثر اللغة العربية ومكانتها وتأثيرها في النفوس مما يدفعنا لاحتذائها والاعتزاز بلغتنا والتعامل بها في حياتنا مع جميع من نخالطهم ويُعطينا دلالةً كبرى على دور لغتنا الغالية في جمال وروعة التواصل الحضاري مع الآخرين أيًا كانوا وهذا من شأنه أن يحبب طلابنا وطالباتنا في لغتنا الخالدة كما أنَّ ربطهم بالقرآن وعرض مثل النماذج المذكورة سلفًا من الطرق المثلى لغرس محبة اللغة العربية في نفوسهم مع تحفيزهم بذكر الأجر المترتب على تعلمهم للغة الدين الحنيف والثناء على مَنْ يسعى للارتقاء بنفسه مبدعًا في لغتنا الأثيرة نثرًا وشعرًا ودعمه والأخذ بيده في هذه الطريق الراقية ولعلي أعرض هذا الموقف الذي حصل ذات عامٍ من أحد طلابي وقد كان في الصف الثاني الثانوي، حيث كان محبًا للشعر وراغبًا في كتابته وتعاونت معه وشجعته حتى رأيتُ منه ما يثلج الصدر ففاجأني في أحد الأيام في صف الصباح كتب قصيدةً فصيحةً من واحدٍ وعشرين بيتًا مهداةً لي من إبداع قلمه وما كان مني إلا أن عارضته بقصيدةٍ على نفس الوزن والقافية وبنفس عدد أبيات قصيدته وألقيتها في صف الصباح من اليوم التالي مما ترك في نفسه أثرًا بالغًا، حيث تألق في سماء الإبداع وأصبح يجاري شعراء كباراً وما زال يتواصل معي بوفاءٍ ومحبةٍ منذ ستة عشر عاماً وهذه بعض أبيات من قصيدته:
الشعر سلطانٌ لكم ولقد سرى
يُهدي إلى سمع الزمان الجوهرا
بقصائدٍ هزَّ الجبالَ سطورها
والدهر خلَّد نورها أن تُقبرا
إني دعوتُ قصائدي وبلاغتي
ومشاعري ترجمتها كي تُبهرا
حياك من أرض الكنانة شاعرٌ
يهديك أبياتاً سمت فوق الذرا
حسبي من الأشعار بيتاً واحداً
زينته وبمدحكم قد أزهرا
وجهتني نحو المعالي دائما
علمتني نظم القريض مسطَّرا
فشكرت حسن صنيعكم لكنني
مازلت في رد الجميل مقصرا
هذي مشاعر طالبٍ رغب الوفا
في شعره من مدحكم قد قصَّرا
وأما قصيدتي التي عارضته بها مكافئًا الوفاء بوفاء فقد قلتُ فيها:
الشعر في أرض الوفاء تبخترا
وحروفه تزهو وتسري عنبرا
وقريحتي بئر تدفق ماؤها
وغدا جداول عذبة تسقي الورى
قد هزها حرفٌ شفيفٌ صادقٌ
من شاعر ملك البيان معطرا
وغزا فؤادي مطربا لفظٌ له
يحكي الوفاء وصار أزهى منظرا
قد أحسن الظن البهي فأورقت
أشجار تقديرٍ لنا أن نفخرا
لا ليس حباً في المديح وإنما
حقٌ علينا أن نقول ونشكرا
من قدم المعروف في زمن الجفا
فهو السخي وإن أتى متأخرا
البر ألوانٌ فأين مسابقٌ
للأجر يرضي الله فضلاً يشترى
يا قوم هذا أحمدٌ سن الوفا
في أرض مدرستي أراه مشمرا
فاليوم يُهدني حلاوة شعره
لله درك شاعرا لن يزدرى
لم يبغ مصلحةً وراء شعوره
قد حاز مرتبة التفوق أدهرا
هذا دليل النبل خلق آسرٌ
بشاشةٌ تجلو الشعور الأكدرا
جعل الطموح رفيق درب زاهر
يقلي المثبط والبليد الأحقرا
فلتهنأي أرض الكنانة إنه
ركب القوافي باكرًا كي يبهرا
مترسمًا فيها خُطى فرسانها
شوقي وحافظ شعرنا كيما نرى
يافارس الشعر الجديد تقدمنّ
صقلاً لموهبةٍ لتلقي الجوهرا
لا تجزعنّ إذا بليت بحاسدٍ
أو حاقدٍ يهوى العداء ليقهرا
إني لآمل أن أراك مُبرِّزاً
في الشعر والإبداع ترقى المنبرا
فاقبل حروفي شاكراتٍ صنعكم
يجزيك ربي أجركم والكوثرا
وأزفُّ تهنئتي لوالدك الذي
يرعى طموحك والشعور الأطهرا
ومن الوفاء للغتنا الخالدة أن أختم مقالتي هذه بقصيدةٍ كتبتها في لغتي الغالية الأثيرة قلتُ فيها:
أهيمُ حُبَّاً بذاتِ الحُسنِ مأسورا
وظل عقلي بها يا صحبُ مبهورا
كم أزهرت في لساني وانتشى قلمي
بها على ساحلِ الأوراق مسرورا
بحرٌ خضمٌ وفيكِ الدرُّ يا لغتي
منكِ اقتبستُ وزدتِ أحرفي نورا
أنا الفخورُ بحسناءِ البيان بها
جاء الكتابَ من الرحمنِ ميسورا
تروين يا لغتي الحسنا مشاعرنا
تُهدين مَنْ يحفظ الميثاقَ تقديرا
تراقص القلبُ من رؤياكِ فاتنتي
معنًى جميلاً ولفظًا جاء تعبيرا
وصرتُ أشدو بحبي دونما ثَرَبٍ
شعرًا على قمةِ الإبداعِ مسطورا
** **
معلم لغة عربية في ثانوية تمير - سدير