عند إمعان النظر في نشأة وتأسيس الدول والكيانات السياسية المختلفة عبر العصور التاريخية سوف نجد أن هناك عاملا مشتركا يجمع فيما بينها، ألا وهو بروز إحدى الشخصيات القيادية المؤثرة على ساحة الأحداث السياسية فيها، والتي كانت تلك الشخصية تسعى بدورها في إحداث التغيير بشتى السبل لتحقيق طموحها وتطلعها للمستقبل والخوض في غمار مرحلة بناء الدولة والكيان السياسي. ولا ريب فإن الأمثلة والشواهد على مثل ذلك الأمر في التاريخ كثيرة لا تحصى بصفة عامة وتاريخنا بصفة خاصة. وفي الحقيقة إن الدولة السعودية الأولى لم تكن بدعاً عن غيرها في مثل هذا الأمر، فالشخصية القيادية المؤثرة والمُؤسسة للدولة السعودية الأولى والتي عرفت بقوتها وتطلعها لوضع اللبنات الأولى لكيان الدولة الناشئة في مدينة الدرعية، كان هو الإمام محمد بن سعود -رحمه الله- الذي عرف عنه بشخصيته القوية وقدرته الإدارية الطموحة والمتطلعة للمستقبل البناء، واشتهر الإمام محمد بن سعود بحسن التدبير والتخطيط، والشورى، والعدل، فقد سار بالناس سيرة حسنة ورفع المظالم عنهم كل تلك الصفات جعلت منه المؤسس الحقيقي للدولة السعودية الأولى، كونه استطاع بما وهبه الله من همة وقدرة إدارية على تحويل مدينة الدرعية إلى دولة موحدة تحت إدارته وسلطته، وذلك حينما وصل إلى سدة الحكم عام 1139هـ/ 1727م، وأسهم بكل قواه في جعلها إمارة قوية بل ومنافسة للإمارات النجدية الأخرى المجاورة، وأوجد لها مكاناً على الخارطة السياسية في إقليم نجد وتأتى له ذلك من خلال عاملين أولهما؛ قوة الإمام محمد بن سعود الشخصية وتدينه وعدله وقدرته السياسية في إدارة شؤون الإمارة واستقرارها من حيث التأسيس وتقوية دعائمها. والثانية؛ استقلال الإمام محمد بن سعود في الحكم دون الوقوع تحت تأثير القوى الإقليمية المحيطة به جعل منها إمارة مرهوبة الجانب، حتى أصبحت دولة مترامية الأطراف في الجزيرة العربية كاملة، بل امتدت حتى خارجها أطراف بلاد الشام والعراق في عهود أبنائه وخلفائه من بعده من أئمة الدولة السعودية. وسار على نهجهم الملك عبدالعزيز المؤسس وابناؤه من بعده.
والواقع أن تلك القوة التي تميز بها الامام محمد بن سعود لم تأت من فراغ فالإمام محمد هو من ذرية الأمير مانع بن ربيعة المريدي، الذي أسس الدرعية على أرض «المليبد وغصيبة» وسار من بعده أبناؤه وأحفاده على نفس النهج في أسلوب الحكم والتطلع للوحدة في انسجام مع المجتمع في نجد ومدى العمق التاريخي للدولة السعودية الأولى فنشأتها بالفعل تعود إلى منتصف القرن التاسع الهجري، فالدرعية كما قال عنها الأديب والمؤرخ الراحل عبد الله بن خميس: «الدرعية هذه المدينة التي برزت لتحكم قلب جزيرة العرب أكثر من ثلاثة قرون يتخللها مد وجزر وانبساط وانكماش وتطور عمران وتجارة وتعليم ومجتمع فاضل وجهاد وتغيير مجرى تاريخ وأساليب حكم».
ويأتي يوم التأسيس هنا ليمثل لنا كسعوديين قيمة رمزية وقيمة تاريخية لعمقنا التاريخي والحضاري ويرمز إلى أصالتنا العربية وقيمنا الإسلامية وثقافتنا القوية وهويتنا الحقيقية، فالدولة السعودية ليست دولة حديثة العهد أو دولة طارئة على صفحات التاريخ، بل هي دولة لها جذورها البعيدة في أرض الجزيرة العربية، دولة عربية صافية المنابع بحكامها وشعبها وحتى يومنا هذا لم تطأها يد قوى أجنبية غازية إلا دحرتها، وإبراز مثل هذا اليوم أمر مهم جدًا وإضافة للذاكرة التاريخية السعودية كي يدرك الأبناء والأحفاد معنى يوم التأسيس وأن وطنهم ومملكتهم ذات بعد وعمق تاريخي يفخر به كل سعودي مخلص لوطنه.
** **
د. علي بن حسين بن عبدالله البسَّام - أستاذ التاريخ الحديث المشارك - جامعة الملك فيصل - كلية الآداب