د. محمد بن إبراهيم الملحم
قدمت لكم فيما سبق سلسلة من المقالات حول أهمية التعلم الذاتي أو ما يُسمى اصطلاحاً «التعلُّم مدى الحياة» Lifelong Learning ولو أردت أن أقدم لكم أمثلة عن أشخاص يمثّلون هذا المنهج فلن أجد أفضل من العلماء الذين قدموا لنا كنوزاً كبيرة من الفكر والفهم ووضعوا قواعد للعلم وأسسوا أساسات لها سواء كانت أعمالهم في مجالات الدين أو اللغة أو الفلسفة أو الجغرافيا أو العلوم والرياضيات والتقنية، البخاري -رحمه الله - والذي غدا كتابه الصحيح هو من أوثق الكتب الحديثية التي يرجع إليها الفقهاء وعلماء الشريعة لاستنباط الأحكام ومعرفة الدين أوقف نفسه وحياته على التعلم، البحث عن المعرفة، والتي تمثّلت في التعرّف على الأحاديث التي يستوثق بها دون أن يتواردها الشك في الرواية أو النقل، ابن بطوطة الرحالة المغربي العظيم، جال ديار الدنيا بحثاً عن المعرفة الجغرافية ليوثق ويقدم للبشرية مشاهداته واستنتاجاته التي تخدم الجغرافيا والتاريخ والاجتماع، جابر بن حيان أبو الكيمياء لم يصل إلى ما وصل إليه إلا لانكبابه على التعلم الذاتي من التجربة ليكتشف كنزاً هائلاً من علم الكيمياء فيؤسس له ويقدم فيه مؤلفاته العظيمة التي استقت منها الحضارة الغربية ودرستها في جامعاتها بداية عصر النهضة.
وعند الحديث عن المدرسة وعلاقة العلماء بها فإنه كثيراً ما تلوح قصص بعضهم ممن رفض أن تكبله المدرسة بقيودها المعرفية وانطلق باحثاً عن المعرفة بطريقته الخاصة، وليس هذا ذماً للمدرسة في ذاتها ولكن لأن هذا الشخص يكون مولعاً بأحد العلوم ولا يريد أن يشغله غيره عنه، بل ربما كان سيئاً في غيره لعدم اهتمامه وربما ليس لعدم كفاءة قدراته الإدراكية، ومن هؤلاء مثلاً عبقري الفيزياء ألبرت أينشتاين والذي عرف عنه أنه كان يكره مواد الأحياء والجيولوجيا ولم يتقن دراسته للغة الفرنسية (كلغة ثانية) مما أثّر على أدائه اختبار القبول لدخول الكلية لاحقاً فرسب فيه واضطر إلى إعادته، ولم يكن عدم إتقانه لهذه المواد إلا لرفضه طريقة المدرسة النمطية في فرض تعلم علوم معينة وكذلك في قواعدها الصارمة للتعليم، وليس ذلك عائداً لقلة قدراته الإدراكية فقد كان مثلاً يحب الاطلاع على كتب الفيزياء الجامعية وهو في سن الثالثة عشرة (أي بعمر طالب السنة الأولى متوسط بمقاييس هذه الأيام) كما أنه قرأ كتاب الفيلسوف «كانت» نقد المنطق المحض في سن الحادية عشرة (صف خامس ابتدائي) وتبنى آراءه وأعجب بها. ولقد كتب في مذكراته منتقداً فكرة وطريقة المدرسة النظامية كونها تضطرك إلى حفظ معلومات كثيرة فقط لتختبر فيها ثم تنساها، وانتقد بشدة طريقة المدارس في ألمانيا، ولأنه انتقل بعدها إلى سويسرا وأكمل دراسته هناك، حيث كان عدد الاختبارات أقل فقد ذكر أن ذلك كان بمثابة المتنفس له، إذ كان له صديق يدون المحاضرات ليقوم هو بمذاكرة المحتوى قبيل الاختبار وينجح بينما يوفر الوقت طوال السنة لقراءاته في العلوم التي يحبها ويعشقها، حيث كان يطلع على كتب علماء فيزياء كبار مثل كيرشوف وهيلمهولتز وهيرتز.
مثال آخر الفيزيائي الأمريكي ريتشارد فاينمان Richard Feynman المتوفى 1988 والذي عرف بإسهامه المهم في مشروع مانهاتن السري لصنع القنبلة الذرية وإسهاماته في ميكانيكا الكم ونظرية الكهروديناميكا الكمية وفيزياء الجسيمات وحصل على جائزة نوبل للفيزياء عام 1965 واعتبر من أهم 10 فيزيائيين في التاريخ حسب استطلاع أجرته مجلة «عالم الفيزياء» عام 1999. هذا الرجل برع في الرياضيات منذ صغره لا بسبب تميز مدرسته ولكن لتعلمه الذاتي في البيت، حيث كان والده مهتما بتنشئته كعالم، واكتسب فاينمان ملكة العلم من مناقشاته مع والده وقراءاته المنزلية.
يقول فاينمان عن مدرسته: لقد كانت قاحلة بشكل مخيف وهي «صحراء فكرية»، ويشيد بتعلمه المزيد في المنزل، غالبًا من كتب الموسوعات، وقد امتلك معملاً تجريبياً في منزله، وكان شغوفاً بتصليح أجهزة الراديو. وقد اخترع فاينمان أثناء مرحلته الابتدائية جهاز إنذار ضد السرقة ليعمل أثناء غياب والديه، وعندما بلغ فاينمان الخامسة عشرة من عمره تعلّم ذاتياً حساب المثلثات والجبر المتقدم والمسلسلات اللا نهائية والهندسة التحليلية وحساب التفاضل والتكامل، وقبيل دخوله الجامعة ابتكر رموزاً خاصة بدوال اللوغاريتمات، الجيب، جيب التمام، وظل الزاوية بحيث لا تبدو كثلاثة متغيِّرات مضروبة في بعضها البعض.
هذه لمحات من مثالين من أمثلة العلماء الذين تعلموا ذاتياً، وانتقدوا المدرسة وجوهاً النمطي البائس وللحديث بقية.