أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: التحدُّث بنعمة الله، ودعوة القارئ ليعيش تجربتي فينتفع بذلك، ولستُ أتحدث بذلك مباهاة، وكيف ذلك وليس لي من الحول والطول شيء، وإنما في منة ربي وفضله، ولولا الله ما اهتدينا.. هذه التجربة أتذكّرها كلما سمعت مثل هذه الآية في توصية الله لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} (سورة الفتح/ 18).. وكل هذا يُفسِّر أن نية المؤمن خير من عمله، والمنّة لله وحده؛ إذ جعل في القلب ما يحبه الله ويرضاه، والمنّة لله الذي جعل في عبده خيراً يعلمه، ومن حرم ذلك فعليه الفِرار إلى الله بدعائه؛ فدعاء الله طلب لإذنه بالصلاح، وهو سبب ديني كتسبُّبنا بالسعي في الرزق، ودعاء الله عن يقين وصدق مضمون الإجابة.. ولقد جبلني ربي حتى في أعظم ساعات الغفلة وظلم النفس على نياتٍ يحبها ربي مني ولله الحمد والفضل والمنّة؛ فنفعني بذلك آخر عمري، والله المستعصَم فيما بقي منه؛ فمن ذلك إيمان لم يتزعزع بالله وملائكته وكتبِه ورسله واليوم الآخر والقدَر خيره وشره، وإنني مع تقدم العمر كأني أرى ربي بعين قلبي؛ لما أستشعره من البراهين العلمية الضرورية على عظمة ربي وكماله المطلق.. ومنها صدق الحب في الله، وإنني فيما سلف لأصحب الفاسق وأنا أمقتُه، وأبعد عن الصالح وقلبي يهفو إليه.. ومنها رحمة في قلبي تؤلمني؛ ففي صغري عَسُرَتْ ولادة شاة عندنا في السطح، وذهب أبي إلى شخص يُخرج الحَوار بالدهان، وهو ذو تجربة؛ ففوجئت بأبي فوق رأسي وغترته في فمه من شدة الضحك؛ لأنه رآني رافعاً رجل الشاة وأقرأ وأنفث على مخرج الحوار من رحمها وأنا أبكي.. ومرة كان بالقرب منا قِطٌّ متوحش له مواء؛ فلم أجد لحمة أعطيه إياها؛ فلحقته بقطعة قديد (قُفرة) يابسة، ولكنه لم يأكلها؛ فقالت زوجة أبي: ولدك يرحم حتى القطاوة (القطط)! .. وإنني لأرى الطفل في بلد شبه علماني فأسرع في الدعاء له بظهر الغيب بالرزق والإنقاذ من ضلال أهل البلد .. وجبلت على سلامة قلب؛ فلا أنام حاقداً على أحد، ولا مضمراً له مكيدة وإن كنتُ قادراً عليها .. بل أُجدِّد الاستغفار والإباحة دائماً لكل من ظلمني وإن كان ظلمه لي فادحاً .. وإنما كنت رجلاً انفعالياً سريع الغضب أنتصف لنفسي في الصحافة بالقول الجارح، والسخرية اللذعة، وكما كنتُ سريع الغضب كنتُ سريع الندم والرجوع؛ ولقد اضمحلَّ هذا الداء بحمد الله وفضله، ثم بشدَّة الرياضة لنفسي.. وجبلت على محبة لربي أعيشها واقعاً ملموساً؛ لكثرة ما رأيته من لطف ربي بي، وأذكر نموذجاً واحداً من حياتي المليئة بالأعاجيب، وذلك أنني أخذت إعارة من مصلحة حكومية إلى مصلحة حكومية أخرى؛ لأتخلّص من المداومة؛ فأتخلّص من الدائنين الذين يلاحقونني، وقد بلغت ديوني خمسة ملايين، وليس عندي أي مقابل، بل عجزت عن دفع أجور شقق استأجرتها لبعض عوائلي؛ بل قالت إحدى بناتي: يِبَهْ ما لقينا في الثلاجة إلا الماء!!.. فنويت الفرار إلى ربي عند البيت العتيق؛ فاحْتلت لهم فيما يسدِّدهم مدة غيابي؛ واعتصمت بالله ثم بالحرم المكي أدعو ربي أسابيع طائفاً ومصلياً وآخذاً بأستار الكعبة وفي المقامين الكريمين.. لا همَّ لي إلا الدعاء، وفي منتصف رمضان كنت وزوجتي مدعوَّين للإفطار عند صديقي الشيخ الدكتور عبدالعزيز الحربي، فأصبتُ بعد الإفطار بجلطة خفيفة، ونوِّمت في المستشفى، وظل الدكاترة يومين بليلتيهن في حيص بيص من أمري، وبعد انتهاء هذه المدة جاءوني يهنئونني بالسلامة، وأنني تجاوزت مرحلة الخطر، وأن المصاب عرق ثانوي متفرع من الشريان التاجي لا يضر حتى لو استؤصل.. هكذا قال لي الدكتور سعيد قنديل عطر الله ذكره.. فما فرغت من حمد ربي وشكره حتى رنَّ جرس الهاتف من بشير خير يبشرني بأن أمراً من خادم الحرمين الشريفين الملك (فهد بن عبدالعزيز) رحمه الله وجَّه إمارة الرياض بسداد كل ديوني مناولة الدائنين؛ فبقي لي مليون ونصف مليون تنازل أصحابها عنها.. منهم معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر له نصف مليون مقابل قرض بواسطته للشيخ عبدالعزيز بن عبدالعزيز المنقور، ومنها ثلاثمائة ألف ريال قرض من سعيد السيد رحمه الله؛ فطلبت من عبدالله السلوم أن يشفع لي بأن تصرف لي؛ لأنني بحاجتها، وأصحابها تنازلوا عنها.. فقال: سنردُّ الشيكات للديوان الملكي، واحْمدْ ربك على ما جاءك .. فكتبتُ لمعالي الأستاذ أبي مازن إبراهيم العنقري رحمه الله تعالى أُخبره الخبر؛ فشفع لي عند خادم الحرمين الشريفين؛ فجاءني البشير بالمستشفى التخصصي بالرياض لما نقلت إليه من مكة بصرف الباقي باسمي؛ فكان ذلك نواة القصر الذي أسكنه الآن.. هذه واحدة من الآلاف من ألطاف ربي {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} (سورة إبراهيم/ 34).. وقد يقول قائل: (إنَّ أبا عبدالحمن مصاب بداء النرجسية، فهو كثيراً ما يتحدث عن نفسه كأنه من عظماء الرجال؟!) .. والجواب عن هذا سهل، وهو أنني تعلمت من الإمام أبي محمد ابن حزم رحمه الله تعالى كما قال في مقدمة كتابه (مداواة النفوس) عن التهمُّمِ بتصاريف الزمان، والإشراف على أحواله: من تجربته على مرور الأيام، وتعاقب الأحوال.. ثم تقييد ذلك والمطالعة له، وإعمال الفكر فيه، وأنه أفضل عنده من كنوز المال!!.. وما حيلتي إن كانت حياتي متنوعة عامرة بالعجائب!!.. وانتفعت بقول الإمام ابن حزم رحمه الله: (إهمال ساعة يفسد رياضة سنة)؛ فإلى لقاءٍ قريب إنْ شاءَ الله تعالى، والله المستعان.
* * *
(محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عَنِّي، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -