د. عبدالحق عزوزي
بالنسبة لفرنسا، أضحى الوضع في مالي «لا يطاق» بعد الانقلاب الذي عرفته البلدة مؤخراً؛ فقنوات التواصل الرسمية لم تعد كالماضي إلى درجة أن الدولة الفرنسية تصرح أسبوعياً أن المواجهة القائمة في مالي مع مجلس عسكري «خارج عن السيطرة» لا يمكن أن تبقى على هذا النحو، وبدأت تبحث مع باقي الفاعلين الدوليين كيفية تعديل عملياتها لمواصلة التصدي للإرهاب المنتشر في المنطقة.
وبدأت فرنسا بالفعل منذ اشهر معدودات إعادة ترتيب قواتها العسكرية في مالي؛ إذ غادرت قواعدها الثلاث في شمال البلد، وخفضت قواتها التي كان يبلغ عددها خمسة آلاف عسكري في الساحل الصيف الماضي، بهدف معلن هو الاحتفاظ بما بين 2500 وثلاثة آلاف عنصر بحلول سنة 2023.
وفيما تحاول فرنسا إشراك العديد من الدول الغربية ضمن قوة تاكوبا الخاصة التي شكلت بمبادرة منها لتقاسم أعباء مكافحة الجهاديين في مالي وإعادة تركيز الجهود على مساندة الجنود الماليين في القتال، طالبت المجموعة العسكرية في مالي هاته الأيام بانسحاب الوحدة الدنماركية المشاركة فيها وهو ما أحدث زوبعة من ردود الفعل من الخارجية الفرنسية أكثر من الخارجية الدانماركية نفسها التي اكتفت بالإعلان أنها ستسحب كتيبتها المكونة من 100 جندي التي وصلت مؤخرا إلى مالي.
ثم بعد ذلك قام المجلس العسكري الحاكم في هذا البلد الأفريقي بطرد السفير الفرنسي في خطوة تصعيدية جديدة بين باماكو وباريس؛ وتلا التلفزيون الرسمي بيانا، جاء فيه: «أبلغت حكومة جمهورية مالي الرأي العام المحلي والدولي أن (...) سعادة السفير الفرنسي في باماكو جويل ميير استدعي من قبل وزير الخارجية والتعاون الدولي (و) أنه تم إخطاره قرار الحكومة بدعوته لمغادرة الأراضي الوطنية خلال 72 ساعة». وبررت السلطات المالية هذا القرار بتصريحات «معادية» لها من قبل مسؤولين فرنسيين مؤخرا.
وكانت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي صرحت لإذاعة (فرانس إنتر) أن بلادها لا يمكنها البقاء في مالي بأي ثمن. ومن جهته كان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان قد قال إن فرنسا ستواصل قتال المتشددين الإسلاميين بمنطقة الساحل. وشدد لودريان على أن الوضع في مالي أصبح «لا يطاق» بعد الانقلاب الذي وقع في أيار/مايو 2021؛ مضيفا أن المواجهة القائمة في مالي مع مجلس عسكري «خارج عن السيطرة» لا يمكن أن تستمر، مضيفا أن باريس تبحث مع الشركاء كيفية تعديل عملياتها لمواصلة التصدي للمتشددين الإسلاميين هناك.
ولكن رغم كل هذا الكلام فإن المجتمع الدولي لا يمارس ما يلزم من الضغوط والإجراءات والتدابير والعقوبات على المجلس العسكري في مالي لردعها الاستعانة بمرتزقة فاغنر أو لإعادة السلطة إلى المدنيين. ويمكن تفسير ذلك بالشراكة التي تجمع الطرفين في مواجهة الجهاديين بالمنطقة، باعتبار أن البلدة ينظر إليها كمعادلة أساسية لا يمكن تجاوزها في التصدي للإرهاب بالساحل الأفريقي.
فالعامل المحدد لكل ردات الفعل الدولية في المنطقة تكمن في «التخوف» وهذا التخوف هو في تزايد مستمر، سيما وأن الإرهابيين متواجدون بكثرة ويترصدون كل مواطن الضعف في تلكم البلدان ليأتوا على الأخضر واليابس.
فرنسا تعاني اليوم من فشل استراتيجيتها في مالي وفي منطقة الساحل؛ حيث إن التغييرات السياسية الداخلية في تلكم البلدان (الانقلاب العسكري في مالي ثم الانقلاب العسكري الأخير في بوركينا فاسو) لم تأخذها يوم من الأيام فرنسا في الحسبان؛ زد على ذلك أن دول مجموعة الساحل الخمس (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا) لا يمكنها أن تشكل وحدة استراتيجية يمكن الاعتماد عليها بعد الانقلابين العسكريين الأخيرين؛ كما أن فرنسا بدأت تشعر بخطورة الرياح المناهضة لها في المنطقة بعد ست سنوات من التواجد المتواصل للقوات العسكرية وسقوط أزيد من أربعين قتيلاً من الجانب الفرنسي... فلا تزال هناك أعمال عنف جهادية في شمال مالي وقد وصلت إلى وسط البلاد وكذلك إلى النيجر وبوركينا فاسو المجاورتين؛ واضحت هاته البلدان فريسة للتنظيمات الإرهابية التي بدأت تنظر إليها كمنطقة صالحة للاستيطان واستقطاب البشر.