«الجزيرة الثقافية» - حاوره - جابر محمد مدخلي:
ناقد عربيّ قرأ المتحولات التاريخية السردية وما بعدها. واهتمّ بنظرية الأدب أيما اهتمام. حين تعود لسيرته الذاتية ومسيرته الإبداعية ستوقفك مرحلة الترجمة التي انتمى إليها فتعلق بها وتعلقت به. كتب وطوّر أدوات النقد الحديث ونظرياته. ألّف مرئيات متخصصة تُدرس ويُعمل بها. ناقد يرى أنّ ما بين السطور أهم من السطور ذاتها. يعتبر أنّ التاريخ السردي التخييلي لا يقلّ إمتاعًا وأهميةً عن التاريخ السردي المرجعي؛ لأنه يخلق حياةً للحدث ويُطلع الأجيال على طباع وسلوك ونفسيات الأمم التي لم يجتمعوا بها. اعتاد أن ينمّي إيمانه ويقينه بأن الرواية التاريخية هي الحل الأنسب لتتويج الأجيال القادمة بما فاتهم من تاريخ أسلافهم ليواصلوا بناء ما توقف من الحضارة وحماية التراث. كل ما مضى هو جزء ضئيل من سيرة الاستاذ الدكتور محمد القاضي، الناقد والأكاديمي التونسي الذي تستضيفه «الثقافية» في حوار متسع لمناقشة ملفات متعلقة بتجربته الناقدة الفردانية، والتعمّقية في منهج تأصيلي مهم هو نظرية الأدب، ومنهج إبداعي بارز في مسيرة القاضي يمكنني تسميته تيمنًا بكتاب أمبرتو إيكو: «ست نزهات في غابة السرد»، نزهات القاضي في كتابة الرواية التاريخية ونقدها وتحليلها ... فإلى نصّ الحوار:
* نعدّ في العالم العربي أقدم الأمم والحضارات والأحداث التاريخية الأصيلة، فكيف أمكن الغرب برأيكم التقدم والازدهار في السرد التاريخي فيما نحن أكثر تأخرًا في هذا الجزء الكتابيّ الإبداعي التخييلي والمرجعي المهم؟
- أعتقد أنّ السؤال يدور حول نوع خاص من أنواع السرد التاريخي هو الرواية التاريخية تحديدًا، لأن العرب عرفوا في مختلف العصور التي مرّوا بها أنواعاً من السرد التاريخي، سواء منه المرجعي الصرف أو ذاك الذي يتداخل فيه المرجعي والتخييلي. وإلا فأين نضع السير الشعبية من قبيل سيرة عنترة بن شداد، وسيرة سيف بن ذي يزن، وسيرة الظاهر بيبرس وغيرها؟ وأين نضع أدب أيام العرب وجزءًا مهمّاً من أدب الأخبار؟ علينا أن نقرّ بأنّ الرواية التاريخية في الغرب هي نتاج تطوّر فكري وجماليّ، أدّى في مرحلة أولى إلى ظهور الجنس الروائي، ثم تفرّعت عنه الرواية التاريخية. فالمسألة ليست - في نظري - مسألة تقدّم وتأخّر، بقدر ما هي مسألة تشكّل للأجناس الأدبية التي هي استجابة لحاجات فكرية وجمالية للأمم في مرحلة معينة من تاريخها.
أما لماذا ظهرت الرواية التاريخية بالشكل الذي نعرفه اليوم في الغرب ولم تظهر عندنا، فإن الجواب عنه يرتبط بظهور الثورة البورجوازية وتشكُّل القوميات في أوروبا. وتلك القوميات احتاجت إلى الرواية التاريخية حتى تعبِّر عن خصوصيتها وتشكِّل هويّتها. أما بالنسبة إلينا، فإنّ تأخّر ظهور الدول الوطنية المستقلة أخَّر ظهور الرواية التاريخية.
* يكتب المؤلف العربي روايته التاريخية وتظل بين خيارين لا ثالث لهما: رفوف المكتبات والمستودعات، أو نزر قليل جدًّا بين الأيادي والنقّاد.. فهل ترون أن هذا المآل لسردنا التاريخي مآل عادل، أم عزوف جائر؟ ثم ما مسبباته برأيكم؟ وكيف يمكننا مجاوزته؟
- يبدو لي السؤال غير موضوعي. فليس صحيحا أنّ مصير الروايات التاريخية العربية كلّها هو الإهمال والنسيان. إذ توجد روايات تاريخية حققت نجاحاً كبيراً و»شعبية» مهمّة. نذكر منها على سبيل المثال: «ثلاثية (عبث الأقدار، رادوبيس، كفاح طيبة) لنجيب محفوظ، والزيني بركات» لجمال الغيطاني، و»ثلاثية (غرناطة، ومريمة، والرحيل» لرضوى عاشور، و»مدن الملح» لعبد الرحمن منيف وغيرها.
غير أنّي أعتقد أنّ المسألة يمكن أن توضع في إطارها الصحيح وهو تدنّي مستويات القراءة في بلاد العرب. وهذه الظاهرة غير مقتصرة على الرواية التاريخية، ولا على الرواية عامّة، ولا حتى على الكتاب الثقافي بصفة أعمّ. ثمّة مشكلة هيكليّة تجعل القراءة عندنا ضرباً من الترف. هل الأوضاع الاقتصادية هي التي تصرف العربيّ المتوسّط عن المطالعة؟ أم هي مرحلة التخلّف التي نمرّ بها والتي تجعل الإنسان ينفق مئات الدولارات على هاتف جوّال أو بدلة أو فستان أو عطر مستورد ولا ينفق النزر اليسير على الكتاب، أم هي التربية الأسرية التي لا تنشّئ الطفل على القراءة؟ مهما يكن من أمر، علينا أن نقرّ بالحقيقة بشكل سافر: أمّة اقرأ لا تقرأ.
الشقّ الثاني من السؤال: كيف نجاوز هذا الوضع؟ بالنسبة إلى القراءة إجمالاً أظنّ أنّ الأمر مرتبط بالترقّي الحضاري والفكري، وهو أمر يحتاج إلى عقود من الزمن. أما بالنسبة إلى الرواية التاريخية، فأعتقد أنّ العائق الأكبر في سبيل رواجها هو تعثر المشروع الوطني وعدم رسوخ الهوية الوطنية التي هي محرك أساسي من محركات الرواية التاريخية، إضافة إلى المستوى الفنّي الضعيف من جهة، والانصراف عن الحاضر والمستقبل إلى الماضي من جهة أخرى. فالرواية التاريخية ليست استنساخاً للماضي وتمجيداً له يصل أحياناً حدّ التقديس والبكاء على الأطلال، وإنما هي فتح لنافذة الماضي لنطلّ منها على قضايا الحاضر ولنبني معالم المستقبل.
* من خلال نقدكم للسرد التاريخي، ما الذي يجب أن تصير إليه الرواية التاريخية العربية برأيكم بعد كتابتها سواءً أكتبت عن تاريخ مرجعي أم تخييلي؟
- إذا نظرنا إلى التجارب العالمية، رأينا أنّ الروايات التاريخية الكبرى وجدت طريقها إلى السينما والمسرح والمسلسلات التلفزيونية والأوبريتات وحتى الصور المتحركة وفنّ العرائس.. إنّ التجليات الفنّيّة على اختلافها يمكن أن تضفي على الرواية التاريخية ألواناً وأبعاداً ودلالاتٍ جديدة، قد تقرّبها من فئات مختلفة وتسهم في زيادة رواجها.
وفي هذا السياق يتعيّن على كتّاب الرواية التاريخية أن يجعلوا نصوصهم مهيّأة لأكثر ما يمكن من ضروب التعبير الفنّي، لأنّ العصر لم يعد عصر الكلمة بل صار عصر الصورة. وحين تأخذ الرواية التاريخية العربية هذه التحوّلات بعين الاعتبار، يصبح بإمكانها أن تنخرط في المشهد الإبداعي العالمي الجديد.
* في كتابكم «الرواية والتاريخ دراسات في تخييل المرجعي» وجدت كما لو أنكم قدمتم نماذج لروايات تاريخية ثم حللتم بعض مقاطعها وأشرتم إليها بالكتابة الجادة والمنعكسة على اشتغال سردي تجديدي، في حين أنّ البعض الآخر مصاب بالاختلال السردي الناتج عن فراغ تاريخي لم يجد كاتبه ما يملأه به غير الترك أو التعليق.. فهل ترون هذا عيبًا وقصورًا في الأساليب المتناولة في بنية النص التاريخي العربي الحديث لدى كتَّاب هذه النصوص؟ أم أنّ فقر المعلومة التاريخية عن بعض الأزمنة وأحداثها هو ما خلق هذا التأزُّم؟
- يحسن بنا ألا نبسِّط الأمور بهذه الصورة. نعم، توجد روايات تاريخية عربية تتميّز ببنيتها المحكمة وبحثها عن جمالية مبتكرة ورؤيتها العميقة للعالم، وتوجد في المقابل روايات تاريخية أخرى مهلهلة البناء لا تستجيب للحدّ الفنّي الأدنى المطلوب في هذا الجنس الأدبي. ولكنّ ذلك لا علاقة له بملء فراغات التاريخ أو عدم ملئها.
من حيث المبدأ، يمكن القول إنّ الرواية التاريخية تنطلق أساساً من واقعة تاريخية متجسّدة في نصّ تاريخي أو أكثر، وتنتقي منه الشخصية والحدث. ولكنها لا تنتظر من ذلك النصّ التاريخي أن يقدّم لها كلّ التفاصيل، لأن النص التاريخي لو تضمّن كل التفاصيل لأغنى عن الرواية. فالرواية التاريخية إعادة بناء للتاريخ، وتخييل لما أغفله المؤرخون. لا بمعنى أنه موجود فعلاً، بل بمعنى أنه يمكن أن يوجد. ومن هذه الزاوية، فإنّ كلَّ نص تاريخي منقوصٌ، وكل رواية تاريخية ملْءٌ لفراغات النص التاريخي.
أما التفاضل بين الروايات التاريخية فأسبابه كثيرة، من أهمّها قدرة الروائي على إيجاد الرابط المنطقي الخفيّ بين العالم المرجعي والعالم التخييلي، ومهارته في إخراج المرجعي في لبوس التخييلي، وإخراج التخييلي في صورة المرجعي. فالرواية التاريخية هي تأريخ ما أهمله التاريخ، وإضفاء روح العصر التخييلية على صورة الماضي المرجعية.
* من وجهة نظركم كمتابع للحركات الثقافية العربية ما الذي تحتاجه الرواية العربية حتى تعين الأفلام والدراما العربية التي باتت اليوم أكثر تأثيرًا في المشاهد والمتابع بعد أن كان الكتاب المقروء وحده الأكثر تأثيرًا في المثقف العربي؟
- لقد ألممنا بشيء من هذا الموضوع منذ حين. ومرة أخرى أعتقد أن طرح السؤال يحتاج إلى تدقيق. فإذا كان المقصود هو اقتباس الروايات في السينما والدراما، فإنّ المهمّة مشتركة بين المؤلفين ومنتجي السمعي البصري. ثمة ثقافة حديثة يحتاج إليها مؤلفو الروايات تتجلى في إبداع نصوص لا تقوم على السرد الخطي التتابعي، ولا تعتمد البلاغة اللغوية التقليدية، بل تستدعي آليات تعدد الأصوات وأنماط الرؤية والتصرف في الأزمنة وغير ذلك. هذا صحيح، ولكن ثمة أمران آخران لا بد من استحضارهما: أولهما الثقافة الأدبية لمنتجي الأفلام والمسلسلات. ففي الغرب، تبدو العلاقة وطيدة بين الرواية والسينما. وذلك بفضل المتابعة الدقيقة لكل ما يصدر من أعمال روائية ناجحة.
أما نحن، فلدينا نصوص روائية كثيرة يمكن أن يتمّ تحويلها إلى الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، ولكن الممسكين بزمام السينما والدراما لا يعرفونها لأنهم لا يقرؤون. وهذه مشكلة متعددة الجوانب، من مظاهرها النقص الفادح في ترويج الكتاب العربي في مختلف الأوساط. وثاني الأمرين أن بين المؤلف والمخرج يوجد كاتب السيناريو الذي يضطلع بدور رئيس في تحويل النص من لغة الكتابة إلى لغة الصورة. وهذا الوسيط هو الذي يجعل النص الروائي قابلا للتحوّل. ومعروف أن كتابة السيناريو تختلف اختلافاً جوهرياً عن كتابة الرواية. وحتى في حال جمع أحدهم بين المهمّتين فإن لكل منهما مؤهلات ومهارات خاصة لا بدّ من توافرها. ومعروف أن نجيب محفوظ كتب روايات وسيناريوهات، ولكنه لم يحوّل قطّ إحدى رواياته إلى سيناريو. وكل رواياته التي اقتبست للسينما أو الدراما كتب غيره سيناريوهاتها. لكل ذلك، لا توجد وصفة سحرية يعتمدها كاتب الرواية ليتحول نصه إلى السينما أو الدراما، وإنما هي ملابسات متعددة وشروط مختلفة ينبغي أن تتضافر لتتم العملية وينتج عنها عمل فذّ.
* الجوائز العربية المتخصصة في تحكيم النصوص الروائية، هل تجدون فيها الإنصاف والعدالة؟ وهل وجدتم النصوص المرشحة على طوال دوراتها هي الأجود بين المشاركات أم أنّ بعض التجاوزات والإقصاءات تسببت في خلق أزمة نصوص رديئة على حساب أخرى كانت لها الأحقيّة ولكن تم اغتيالها عنوة؟
- هذا سؤال خطير والإجابة عنه غير ميسورة. فكثرة الروايات العربية أدّت إلى تكاثر الجوائز. وهذه الظاهرة جيدة في ذاتها لا بدّ أن ننوّه بها ونرجو لها أن تتعزز. ولكن لسوء الحظ أنّ الكثير من الروايات الفائزة ضعيفة، في حين تظل روايات أخرى إمّا خارج المسابقات لأنها لم ترشَّح، وإمّا خارج الجوائز لأنها لم تنل رضا أعضاء لجنة التحكيم.
علينا أن نقرّ بادئ ذي بدء بأنّ الأذواق متنوعة والثقافات متعددة، ومن ثمّ فإن ما يعجبني قد لا يعجب غيري. ولكن ثمّة مقياس قد يكون حاسماً هو المآل الذي يؤول إليه النص أو النصوص الفائزة. فما أكثر الروايات الحاصلة على الجوائز العربية السنيّة التي يكاد لا يسمع بها إلا أعضاء لجان التحكيم. والمقرّبون من تلك اللجان يعرفون كيف يتمّ اختيار أعضاء تلك اللجان وكيف تتمّ الصفقات بينهم. وفي هذا، للأسف الشديد، ضرب لمصداقية الجوائز. لأنّ العضويّة فيها لا تراعي ثقافة العضو وموضوعيته بقدر ما تنظر في اسمه وشهرته وعلاقاته؛ وهو ما يجعل أغلب الجوائز العربية عملاً دعائياً هدفه الإثارة أكثر من الإبداع.
* إلامَ تعزون انعدام الدراسات والقراءات النقدية المتخصصة بمشهد ثقافي شامل لجميع منجزه السردي، ثم هل ترون أن المختبرات السردية القائمة حاليًا تقدم مشهدًا نقديًا مُثريًا وثريًا، وأنها قادرةً على استخراج ملاحظات خادمة للقفز بالسرد العربي للتجديد والتغيير للأجود والأميز؟
- قد لا أشاطرك الرأي في انعدام الدراسات والقراءات النقدية للمنجز السردي العربي. فالدراسات الجادة - رغم قلّتها - موجودة، والقراءات النقدية العميقة - رغم ضآلة عددها - متوافرة. ولكن هات من يقرؤها ومن يفيد منها! إن المهتمين بكرة القدم وبالأغاني الهابطة أضعاف أضعاف أضعاف المتابعين لمثل تلك الكتابات.
ولكن أودّ أن أتوقّف عند جزئية مهمّة. فالدراسة غير النقد. لأنّ الدراسة تحليل يتوسّل بأدوات علمية موضوعية هدفه الوقوف على خصائص النص البنائية والأسلوبية والموضوعاتية.. أمّا النقد فهو إجمالاً عمل معياري هدفه إصدار حكم على الأثر الأدبي إيجابي أو سلبي. علماً أن النقد يتنزل في مستويات متعددة تبدأ بالمراجعات النقدية، والنقد الصحفي، وتصل إلى المؤلفات المفردة.
وهذا يقودنا إلى أنّ المختبرات السردية لا تقوم بعمل نقدي، وإنما هي تضطلع بعمل وصفي يروم استخلاص معالم التجربة الإبداعية. ومن هذه الجهة يمكننا أن نطمئن إلى أنّ تلك المختبرات تؤدي دوراً مهماً في رصد ملامح المشهد السردي العربي. ولكن ما ينقصنا هو التفاعل بين المبدعين والدارسين والنقاد. وهذه معضلة يعسر الخروج منها، لأنّ الساحة الثقافية العربية لم تصل إلى إيجاد منابر حوارية جادّة من شأنها أن تفتح مسالك جديدة للقراءة وآفاقاً مستحدثة للإبداع.