يعتقد الكثير أنّ شارل بودلير هو رائد قصيدة النثر، فيؤرّخون لأوّل قصائده النّثرية بـ (قصائد ليلية) عام 1857م؛ ولكنّ المتتبّع لتأريخ هذا الجنس الشّعري، يدرك أنّ شاعرًا آخر غير بودلير هو الذي أسّس المعالم الأولى لقصيدة النّثر؛ إنّه الشّاعر الفرنسي لويس برتران، أو ألويزيوس برتران كما يحلو للنّاقدة الفرنسية سوزان برنار تسميته، فقد كتب مجموعة شعرية واحدة بعنوان (غاسبار الليل)؛ وكانت هذه المجموعة هي البداية التي انطلقت منها قصيدة النثر الفرنسية، وقد لفتت هذه البداية الأنظار، وأحدثت الصّدمة المتوقّعة لكلّ بداية مغامرة، وفرضت نفسها على الحضور الشعري تدريجيًّا، وقد تصاعد حضورها على نحو خاصّ حين تأثر بودلير بقصائدها، وأعجب بتلك المحاولة التي كانت تمثّل نقطة انطلاق للاتجاه الجديد، كما فعل من جاء بعد بودلير من الشّعراء، أمثال رامبو، وملارميه، ولوتريامون(1).
ويتضمن (غاسبار الليل) مجموعة قطع نثريّة، كلّ قطعة مقسّمة إلى أربع فقرات أو وحدات شعريّة، أو إلى خمس أو سبع، ويفصل بين الفقرة والأخرى، أو الوحدة والأخرى بياض واسع كأنّ كل فقرة مقطع شعري قائم بذاته؛ بل وكأنّ النّص النّثري هذا شعر، وهنا تكمن أهميّة برتران في محاولة هدم القواعد الكلاسيكيّة للنّثر والشّعر، بإيجاد نمطٍ أدبي جديد ومبتكر يوحّد ما بين الجنسين، ويوجد أفقاً للكتابة لم يعرفه الأولون بهذه الجرأة في التّشكيل، «ففي نثره يؤلف البياض وقفة صمت ناطقة نشعر وكأننا وسط أشباح المقاصد، والاحتمالات والأفكار غير المعبر عنها، ففي طباق النص يتكون في ذهننا نص تحتاني غير مكتوب، وما أن نوحّد المكتوب بحبر أسود والمفترض بحبر أبيض، حتى يبرز المعنى العام مكملاً للنص، هذا البياض الذي كان برتران مهووسًا به سيطوره مالارميه تطويرًا راديكاليًّا في قصيدته (رمية نرد)، كأن يستوجب على القارئ أن يستقرئ كل جملة بنفسه مستضيئًا بالبياض ليبصر الكل (2).
وتتضح فرادة التّشكيل الشّعري عند برتران في قدرته على إعادة صياغة الواقع المعيش؛ صياغة شعرية ويشكّلها تشكيلاً متميّزًا يكاد يرتقي إلى درجة الاختلاف المؤسس للثّورة. والواقع أنّ تجديد برتران الكبير يكمن في محاولته أن يحل فكرةً تقنيةً محددةً، وشكلاً راسخًا، محلّ فكرة الغنائيّة التّلقائيّة التي تخلق الإيقاع بنفسها، بلا قواعد ولا منهج (3).
وقد تعرّضت سوزان برنار إلى إبراز قدرة الشّاعر برتران التشكيليّة من خلال عرضها لمثالين؛ الأوّل عبارة عن مقال نشره الشّاعر بصفته صحفي في جريدة (لوسبكتاتور)، والثّاني عبارة عن تشكيل شعري جديد من حيث الصّور المضمونيّة، ثمّ جاء شارل بودلير محاكيًا برتران، بدأ من ديوانه الأول (أزهار الشر/ 1857م)، ثمّ مجموعة قصائد نثريّة أخرى أكثر جرأة توسم بـ (سأم باريس) أو (سوداويّة باريس)، وهي اعتراف صريح بريادة صاحب (غاسبار الليل) في عالم قصيدة النّثر (4).
ثمّ كتب جان أرتور رامبو (1854م – 1891م) قصائد (إشراقات)، وهي جوهر قصائد أرتور النّثريّة باعتبارها قصائد لا تقف عند الكلمة أو الصّورة، ولا تتمظهر من خلال البحث عن المعنى العام؛ وإنّما تكمن في عدم ترابطها النّفسي والسّياقي والدّلالي معًا، في نظام مستتر يربط ما بين جُمل النّص، كما استطاع رامبو أن يقترب أكثر فأكثر من إيجاد ذلك التّوازن وأعطى قصيدة النّثر المكثّفة والسّريعة علامة نبلها الشّعري، فقد شحنها بصور لم تطف بوهم شاعر سابق، جاعلاً منها شظايا متطايرة من حِمم المجهول فوق الصّفحات مجازًا مرسلاً من سماء لغة جديدة لن تعود فيها القصيدة إيقاعاً حديثاً؛ وإنَّما ستستبقه (5).
إنّ منهج رامبو قائم على الثّورة والتّمرد، والهدم والتّأسيس، والرّفض والإيجاد؛ فالشّاعر عنده إمّا أن يكون رائيًا أولا يكون، مهمّته استكشاف المجهول وإيجاد لغة ترفض الانصياع لطقوس النّمط والتقليديّة، ولا يستقيم هذا الأمر بالنسبة للشّاعر إلاّ إذا عمل على تعطيل ممنهج للحواس كلّها، حتّى يتمكّن من الغوص في عالم الرّؤيا وأفق المجهول، وعندما يعود إلى عالمنا يجعلنا نحسّ، ونلمس، ونسمع استكشافاته المصاغة في قالب فكري ولغوي جديد ومتميّ، وذلك من خلال منح الكلمات طاقاتها الإبداعيّة الدّالّة، والغوص في المجهول؛ لاستكشافه، ونقله إلى المتلقي، وإشراكه في الإحساس به (6).
- ** -- ** -- ** -- ** -- ** -- ** -
الإحالات:
(1) ينظر: سوزان برنار، قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن، ترجمة: راوية صادق، مراجعة وتقديم: رفعت سلام، (دار شرقيات، القاهرة، 1998م)، ج1، ص69 وما بعدها.
(2) ينظر: عبد القادر الجنابي، أنطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية، ط 2، (دار النهار، بيروت، 2003م)، ص 8.
(3) ينظر: قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن، مرجع سابق، ج 1، ص 77.
(4) المرجع السابق، ج 1، ص 142
(5) أنطولوجيا قصيدة النثر الفرنسية ، مرجع سابق، ص 10.
(6) ينظر: قصيدة النثر من بودلير حتى الوقت الراهن، مرجع سابق، ج 1، ص 203- 204.
** **
- د. ساري بن محمد الزهراني