يعي المشتغلون بعلم اللسانيات، أن اللغة تتشكل في نشأتها الأولى وفق لغورتميات صوتية بسيطة جدًا، يتم توظيفها للتعبير عن الاحتياج الفردي، ولتوليد ثنائية تفاعلية تفضي لتحقيق مبدأ التواصل. أي أن اللغة تتحرك في مراحل نشأتها الأولى في أدنى مربعات الاحتياج الإنساني التي تناولها إبراهام ماسلو في هرمه الشهير.
ومن هنا فالمشتغلون بالهم اللغوي لم يجانبهم الصواب حين عرفوا اللغة بأنها نظام من الأصوات الحنجرية العشوائية التي تستخدم في الاتصال الإنساني.
ومن هنا فاللغة تنمو وتتطور تدريجيًا بتطور المجتمع الذي تولدت فيه، أي أن معامل النمو اللغوي يرتبط تصاعديًا بالتنمية الثقافية والاقتصادية وقبل ذلك الاجتماعية في أي شعب أو أمة أو حتى مجتمع. ولذا حين يأتي الشعر في هذه المرحلة من الحضور المجتمعي المتكامل، فإنه يأتي في هيئته التامة في البنية والتشكيل.
وهذا الأمر نجده في الشعر العربي وفي الثقافة الأنجلوساكسون على عمومها وفي الإنجليزية على وجه الخصوص التي يصفها علماء اللسانيات بلغة الشعر.
وعلى ضوء ذلك حين يأتي إنسان ما ليطالب أو فلنقل يسأل عن الصورة البكر أو البنية التشكيلية للشعر في نشأته الأولى، فإنه لا يحظى بأي إجابة. وهذا الأمر في تقديري قد كان الباعث الرئيس لمرجليوث لتأليف كتابه الذي أثار الكثير من اللغط، وأعني به كتاب «منشأ الشعر العربي»، الذي حوى دعواه نحل الكثير من الشعر الجاهلي. ولكي أكون منصفًا فينبغي أن أذكر بأن مرجليوث لم ينكر وجودية الشعر الجاهلي، فهو أقر بوجود الشعر الجاهلي قبل الإسلام لأن القرآن أشار إليه وفي سورة باسم الشعراء ، وأضاف أن خصوم النبي قد وصفوه بأنه كان شاعراً مجنوناً ، وتأتي في القرآن ثلاثة ألفاظ هي : كاهن ومجنون وشاعر، وأن هذه الألفاظ مترادفة بمعنى واحد. ويستنتج من ذلك أن «من عادة الشعراء آنئذ التنبؤ بالغيب .. وأن الشعر كان غامضاً مبهما»
ولكي لا أكون شوفونيًا كغيري، فسأسلم بأن بعضًا مما قاله مرجيليوث يحوي القليل من الصحة جراء ما قام به الثلاثي حماد عجرد، والراوية ومطيع ابن إياس، إلا أن هذا الأمر لاينفي أن هناك شعرًا جأهليًا فيه الكثير من الجمال في بنيتيه السطحية والعميقة، كما أنني لا أميل لما قاله ابن خالويه في مصنفه الشهير ان ابن حذام الكلبي، هو أول من قال الشعر.
وعليه فهناك ميل لدي واعتقاد قوي بأن الصورة الهيكلية الأولى للشعر العربي وهو في طور تشكله قد كانت سابقة لما تعارف الجميع على تسميته بالعصر الجاهلي. أي أن هناك عصر «ما قبل الجاهلي»، وهذا العصر قد غيبته بالكلية متتالية التاريخ.
وعند تأمل ذات الأمر لدى الإنجليز، فسنجده يميلون للاعتقاد بأن الشكل أو البنية الأولية للشعر الإنجليزي قد تمثلت في القصيدة الملحمية بيوولف Beowulf، التي ينظر إليها كأول عمل رئيس في الأدب الإنجليزي، والتي لا يعرف حتى قائلها.
لكن ماذا كان هناك؟ وتحديدًا قبل حضور بيولف للمشهد الشعري الإنجليزي. الإجابة هي المزيد والمزيد من الأحاجي سواء فيما يتعلق بماضي الشعر العربي أو الشعر الإنجليزي. وهذه الفجوة التاريخية الأدبية هي ما أجدني أميل لتوصيفها بالحقبة الزمنية الأدبية السوداء، التي لا أعتقد أنه سيأتي يوم ما في قادم الأيام ونكشف عنها غطاء الغيب.
** **
- د. حسن مشهور