مهمة الرواية تعلمنا مكائد الحياة عن طريق التسلية
إيكو
المتأمل لرواية ما بعد الحداثة، يجد أنها بدأت وتطورت على يد أدباء وروائيين واسعي الثقافة متعددي الاهتمامات، فهم روائيون ونقاد وربما شعراء ومفكرون، وأبرزهم كما مر بنا في هذه الدراسة إدجار ألان بو، وجون بارث، وخورخي بورخيس، وأمبرتو إيكو موضوع حديثنا في هذه السلسلة.
أمبرتو إيكو Umberto Eco المولود في 5 يناير 1932 والمتوفى في فبراير 2016م أديب ومفكر وأكاديمي وناقد وروائي إيطالي جمع أكثر من مجال في الفكر والأدب والنقد السيميائي، وطوّر السيميائيات الأدبية وفكّك شيفرات التأويل.
ويعتبر أحد رواد رواية ما بعد الحداثة في كثير من أعماله الروائية وأهمها بل أشهرها روايته اسم الوردة.
وبالرغم من تأثره بالأدب الشرقي خصوصاً ألف ليلة وليلة التي حاكاها في جزء أساسي من روايته اسم الوردة، إلا أنه لم يعترف بذلك كما سوف نوضح عند حديثنا عن هذه الرواية.
حياة إيكو ودراسته
التحق بجامعة تورينو لدراسة فلسفة القرون الوسطى والأدب ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة وكانت أطروحته عن (توما الأكويني) 1954.
عمل إيكو في عدة وظائف ومهن تربوية وأدبية وإعلامية وفكرية فقد عمل في التدريس، والبحث، والنشر، وكذلك في التحليل الإعلامي في التلفزيون الإيطالي، وهو صاحب نظريات، ثم كتب الرواية ونجح في أسلوبه الروائي المدهش خلال رواياته العديدة، كما ساعده تخصصه في اللسانيات والفلسفة، على أسلوبه في الأدب والتحليل الإعلامي والأدب، وقصص الأطفال.
وصار أمبرتو إيكو في سنة 1961 أستاذاً للاستيتيقا بجامعة بولون، ثم أصدر كتابه «دراسة في السيميائيات العامة» في عام 1975 واشتهر الكتاب في إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، ثم أصبح يدرس مادة السيميائيات.
أسلوبه ورؤاه
يقول إيكون عن أسلوبه وتقنياته «بعد انتهائي من أطروحتي بدأت مباشرة بالعمل للتلفزيون الإيطالي الوطني. كان هذا في عام ????، بعد بضعة أشهر فقط بدأت برامج البث التلفزيوني. كانت بداية حقبة التواصل البصري الجمعي في إيطاليا. ولهذا بدأت بالتساؤل إذا ما كنت أعاني من نوع غريب من انفصام الشخصية. ففي جانب كنت مهتمًا بأكثر الأدوات اللغوية حداثةً في الأدب والفن التجريبي. وعلى الجانب الآخر، كنت أستمتع بالتلفاز، والكتب المصورة، والقصص البوليسية. سألت نفسي تلقائياً، هل من الممكن أن تكون اهتماماتي متباعدة إلى هذا الحد؟».
ويفسر ذلك بقوله «تبين لي أن الأمر سيميائي؛ لأنني أردت توحيد المستويات المختلفة في الثقافة. استنتجت أن كل ما ينتجه الإعلام الجماهيري قابلٌ لأن يكون عنصر تحليل ثقافي».
ويضيف «قلت ذات مرة إن السيميائية هي نظرية الكذب» لكنه يستدرك ذلك ويقول «بدلاً من «الكذب»، كان حريّاً بي القول إنها «قول نقيض الحقيقة» يمكن للبشر أن يروا قصص الجنيات، وتخيل عوالم جديدة، وارتكاب الأخطاء ويمكننا أن نكذب. اللغة مفتوحة على كل هذه الاحتمالات».
أهم مؤلفاته السردية والأدبية النقدية
من أهم مؤلفاته الروائية السردية رواية «اسم الوردة « و»مقبرة براغ « و» كيفية السفر مع سلمون « و «نزهات في غابة السرد» و» حاشية على اسم الوردة « و»جزيرة اليوم السابق « و» باودولينو» و» بندول فوكو « و» العدد صفر».
وله عدة كتب أدبية ونقدية أهمها السيميائيات العامة 1975 والرجل الخارق 1978، وكانت وخلد الماء 1979، والسيمياء وفلسفة اللغة 1984، والحرب الزائفة.
اهتم ايكو بطبيعة المعنى وإمكانيات التأويل وحدوده، كما توقف عند العلاقة التي تجمع بين المؤلف والقارئ، بقدر ما يعيد التفكير في التأويل ومفهومه وإمكاناته، وفي دور القارئ في عملية إنتاج المعنى.
أسلوب ما بعد الحداثة عند إيكو
يعتبر النص عند بعض الحداثيين إعادة لنصوص أخرى معروفة، ولكنها تقرأ داخل شبكة جديدة من العلاقات، إذ يستعمل التاريخ ليس من أجل قراءة تاريخية، وإنما من أجل قراءة تأويلية تربط الماضي بالحاضر، وهذا ما نراه في أعمال إيكو الروائية.
رواية اسم الوردة
تعتبر رواية اسم الوردة The Name of the Rose الصادرة 1980 إحدى الروايات ما بعد الحداثية الفريدة من نوعها، طبع منها عدة طبعات، كما ترجمت إلى عدة لغات ونجحت عالمياً وحولت إلى فيلم نجح كما نجحت الرواية.
ومضمون الرواية يحكي عن جريمة حدثت في إحدى الأديرة في بداية القرن الرابع عشر في مقاطعة فرنسية، نتيجة خلاف تصاعد إلى صراع حدث بين إمبراطور ألمانيا وبين البابا الذي يقيم في افينون الإيطالية، وكان إمبراطور ألمانيا سعى إلى السيطرة على بعض مقاطعات إيطالية، وتعتمد الرواية أسلوب الرعب مع بعض التشويق، حيث برز دور الرهبان الفرنسيسكان في سعيهم إلى تسميم صفحات (كتاب أرسطو عن الضحك) ومحاولة قتل الرهبان إخوانهم في الرهبنة، وتم التحقيق من قبل المرسل من البابا للتحقيق في الجريمة الأولى وهو الراهب المسمى (إنسو ملك) وخلال التحقيق في الأيام السبعة يكتشف إنسوملك أن هناك سبعة رهبان وجدوا مقتولين، سواء بانتحار أو تسميم، وكشفت هذه الحادثة قوة وشراسة الصراع الأيدلوجي والتزمت الشديد والجهل والعدوانية عند البشر حتى ولو كانوا متدينين مثل هؤلاء الرهبان.
تأثر سرد ألف ليلة وليلة على حبكة رواية اسم الوردة.
لا شك أن الروائي إيكو في كتابته لرواية اسم الوردة استفاد من قراءته المتعددة للتراث العالمي والتراث الشرقي خصوصاً ألف ليلة وليلة، والتي اعتمد عليها وتناص مع بعض حكايات ألف ليلة وليلة في هذه الرواية المهمة، بالرغم من عدم اعتراف إيكو بذلك.
يقول مترجم الرواية الأستاذ أحمد الصمعي إن أمبرتو إيكو استعار ثيمة الكتاب المسموم من حكايات ألف ليلة وليلة ( الليلة الخامسة على وجه التحديد ) ففي إحدى حكايات ألف ليلة وليلة نجد أيضاً كتاباً مسموماً، وهي حكاية تشابه في فحواها ما حصل في «اسم الوردة».
ويتمثل تناص الرواية مع حكاية الليلة الخامسة في ألف ليلة وليلة في أن حبكة رواية اسم الوردة تعتبر حبكة بوليسية مشوقة ومثيرة، تكشف سر الكتاب المسموم كما في قصة ( الملك يونان والحكيم رويان في ألف ليلة وليلة ) وهو ما يمثل ركيزة أساسية في بنية الرواية ويكمن السر الذي كشفه غوليالمو في كتاب مجلد يحتوي الجزء الأخير منه على نص عربي وآخر سرياني يخفيه بورج لكي لا يقرأه أحد، وحاول يورج أن يخدع غوليالمو من خلال تقديم الكتاب له لكي يقرأه غير أن غوليالمو كان أذكى منه فوضع يديه في قفازين قبل أن يلمس الكتاب فوجد المخطوط عربياً وحين قام بتصفح الكتاب ووصل إلى النص السرياني انتبه أدسو الذي كان يراقبه بأن أوراق المخطوط مادتها مختلفة وانتبه غوليالمو وهو يقرأ أن الأوراق التي بلغها في قراءته تلتصق الواحدة بالأخرى . فحاول يورج أن يشجعه على مواصلة التصفح لكن غوليالمو فطن إلى أن المادة اللاصقة إنما هي سم وكانت وراء موت كل الذين حاولوا تصفح الكتاب.
بحث الناقد العراقي سعيد الغانمي 2002 العلاقة بين روايتي إيكو وهما اسم الوردة وجزيرة اليوم السابق لأمبرتو إيكو بحكايات ألف ليلة وليلة وحي ابن يقظان.
ويرى الغانمي «أنه حين علم أمبرتو إيكو بأن العرب قرؤوا الحدث المتعلق بتسميم مخطوطة الجزء الثاني من كتاب «الشعر» لأرسطو في روايته «اسم الوردة»، في ضوء حكاية «الملك يونان والحكيم رويان» في «ألف ليلة وليلة»، قال إنه لم يطلع على هذه الحكاية العربية، وأن الأمر بالنسبة إليه لا يتعدى أنه اشترى قبل سنين بعيدة طبعة قديمة من كتاب «الشعر» بسعر زهيد، لأن أوراقها كانت متضررة بزيت من نوع ما، اضطرّ إيكو معه أن يحتفظ بالنسخة في مكان فوق المكتبة. وحين أراد كتابة «اسم الوردة»، عاد إلى تلك النسخة فأوحى له الكتاب المزيّت بفكرة الكتاب المسموم».
ويتساءل الغانمي « هل يمكن الاحتكام إلى نيات المؤلف في تأويل نص ما، أم إن للقارئ دوراً ليس بأقلَّ من دور المؤلف فيه؟».
ويؤكد الغانمي « إن القارئ العربي لا يستطيع أن يفصل حدث تسميم مخطوطة الجزء الثاني من كتاب الشعر المعني بالضحك، وهو الحدث الذي تتمحور حوله رواية «اسم الوردة» بأسرها، عن تراثه الطويل المتعلق بالكتاب المسموم ليس فقط في «ألف ليلة وليلة»، بل في مجمل تراثه الأدبي قبلها وبعدها».
رواية جزيرة اليوم السابق
رواية ترجمها أحمد الصمعي، ويرى الغانمي بأن هذه الرواية هي الأخرى « يصحّ عليها نفس الرأي فالحدث المحوري فيها هو التأمل في طبيعة الوجود والزمان في جزيرة نائية ليس فيها بشر».
ويتساءل الغانمي «لعلّ القارئ لا يستطيع منع نفسه من استدعاء حيّ ابن يقظان لابن طفيل. من ناحية الموقع الجغرافي للجزيرة، لقد وضع إيكو جزيرته بمحاذاة خط الاستواء، وأطلق عليها اسم جزيرة سليمان، وكذلك اختار ابن طفيل جزيرته، لكنه جعلها أقرب إلى الهند بدلاً من غينيا».
ويوضح الغانمي بأن « التماثل لا يقتصر على هذا الحد، بل يتعداه إلى الطريقة التي وصل بها البطلان إلى الجزيرة. لقد وصل روبارتو على لوح خشبي بعد أن غرقت سفينة العلماء القراصنة، أما حي ابن يقظان فقد وصل إلى جزيرته «في تابوت أحكمت أمه زمه، بعد أن أروته من الرضاع». والتابوت واللوح كلاهما وسيلة سرديّة للوصول إلى لغز الجزيرة المستحيلة».
ويستنتج الغانمي بأن « هذه الجزيرة هي النموذج البدئي الذي يرتدّ إليه النصّ أن «حي بن يقظان» نفسها يمكن إرجاعها إلى نصوص أخرى، من بينها حكاية «قصة ذي القرنين وحكاية الصنم والملك وابنته».
أعمال إيكو الروائية
والملاحظ أن معظم روايات إيكو الأخرى تتشابه مع روايته اسم الوردة، فهي حكايات تغلب عليها ألغاز المؤامرات والجرائم والمعارف القديمة عبر الأزمنة والغيبيات، بلغة قابلة للتأويل تتسم بالفراغات والمساحات التي تتيح للقارئ المشاركة والتأويل. وأحيانا السخرية والتهكم تجسد خصائص رواية ما بعد الحداثة.
هوامش
- أمبرتو إيكو، اسم الوردة، ت أحمد الصمعي، 2019، دار الكتاب الجديد المتحدة.
- سعيد الغانمي، 2002، تحقيق أدبي يستعيد «ألف ليلة وليلة» وابن طفيل والمسعودي. مصادر أمبرتو إيكو العربية في «اسم الوردة» و»جزيرة اليوم السابق»، جريدة الحياة 12/6/ 2002 رابط
https://www.sauress.com/alhayat/31130178
** **
- ناصر محمد العديلي
chmq2012@gmail.com